بالضربة القاضية، انتهت "تمثيليّة" ترشيح رجل الأعمال المهندس سمير الخطيب لرئاسة الحكومة خلفاً لسعد الحريري. فالرجل الذي ظنّ أنّ فرصته لا تُفوَّت، اضطر مُكرَهاً لإعلان "اعتذاره" عن عدم إكمال المشوار، بعد لقاءَيْن مع كلٍ من الحريري ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان.
هكذا، بحبكةٍ دراميّةٍ تفتقد الحدّ الأدنى من الإبداع، انتهت "التمثيلية" بسلسلة "انقلاباتٍ" على كلّ اتفاقات الأسبوع المنصرم، بل على كلّ مفاوضات الأيام الخمسين الماضية، ليتبيّن أنّ معادلة "ليس أنا بل أحد آخر" التي أطلقها الحريري لم تكن أكثر من "خدعة"، لا شكّ أنّ خصومه المتمسّكين به جاروه فيها، ولا يزالون.
بيد أنّ "الانقلاب" الأهمّ يبقى ذلك الذي سطّره رافضو "خرق الدستور"، والمعترضون على "ابتداع ما يسمى رئيساً محتملاً للحكومة" وفق ما جاء في بيان رؤساء الوزراء السابقين الأخير، ليس لأنّهم صمتوا على "مبايعة" المرجعيّة الدينيّة لمرشح "أوحد" للمنصب فحسب، بل لدفع بعضهم إلى تأجيل الاستشارات ريثما تتبلور الصورة المستجدّة!
"كبش محرقة"؟!
قد يكون سمير الخطيب الخاسر الأكبر وسط كلّ المعمعة التي حصلت منذ إعلان ترشيحه، وحتى انسحابه غير المفاجئ. الرجل الذي لم يصدّق طرح اسمه لرئاسة الحكومة، ومضى في المهمّة حتى الرمق الأخير، متحدّياً الجميع، اضطر للاعتذار في نهاية المطاف، "بكلّ راحة ضمير"، على حدّ ما قال بعد اجتماعيْن منفصليْن مع كلٍ من دريان والحريري.
من هنا، اعتبر كثيرون أنّ الخطيب، الذي لم يطبّق مقولة "الثالثة ثابتة"، بل احترق اسمه كسلفيْه محمد الصفدي وبهيج طبارة، شكّل "كبش محرقة" على خطّ الصراع المستمرّ بين رئيس الحكومة المستقيل وشركائه في حكومة تصريف الأعمال، على شكل وتركيبة الحكومة المقبلة، وأنّ طرحه لم يكن جدياً، بدليل تراجع تكتل "لبنان القوي" عن دعمه في ربع الساعة الأخير، وذهاب كثيرين من نوابه لنكران إعلان دعمهم لأيّ كان.
صحيح أنّ الحريري قال لكلّ مفاوضيه على امتداد الأسبوع الماضي، إنّه "ملتزم" تسمية الخطيب، إلا أنّ أحداً لا يمكن أن يتصوّر أنّ الرجل "بريء" من السيناريو الذي شهدته الأحداث المتسارعة، بدءاً من بيان العائلات البيروتيّة، وصولاً إلى موقف رؤساء الحكومات السابقين، معطوفاً على كلام الوزير السابق نهاد المشنوق من دار الفتوى، امتداداً إلى موقف المفتي دريان، ليظهر بوضوح استناد الحريري إلى "شبه إجماعٍ" سُنّي يجعله المرشح الوحيد لرئاسة الحكومة.
وإذا كان ما حصل أطاح بمعادلة "ليس أنا بل أحد آخر" التي يرى كثيرون أنّها لم تكن جدية من الأصل، وإن قال الحريري عكس ذلك، فإنّ علامات استفهامٍ تُطرَح عمّا إذا كان "اللعب على المكشوف" قد بدأ الآن، علماً أنّ كثيرين يعتقدون أنّ ما حصل كان مخطَّطاً من الحريري لـ "ابتزاز" خصومه، عبر تثبيت "نظرية" أنّه الخيار الوحيد المطروح، بعدما عجز عن إقناعهم بـ "الحُسنى"، وأنّ المطلوب التجاوب بشكلٍ أو بآخر مع شروطه، لأنّ الرهان على حكومةٍ يشكّلها غيره سيخيب، إلا إذا كانت حكومة مواجهة، وهو ما يرفضه "التيار الوطني الحر" والثنائيّ الشيعيّ، قبل خصومهم.
مفارقاتٌ مثيرة!
لكن، وبانتظار نضوج المفاوضات الحكوميّة التي يُرجَّح أن تدخل فصلاً جديداً ومباشراً هذا الأسبوع، ثمّة الكثير من المفارقات التي حملتها مواقف عطلة نهاية الأسبوع، لا بدّ من الوقوف عندها، خصوصاً أنّها عكست في جانبٍ كبير منها، "ازدواجيّة" في المعايير، و"انقلاباً" على كلّ ما أعلِن سابقاً، تبعاً للمصلحة السياسيّة.
ولعلّ المفارقة الأولى التي تُسجَّل هنا ترتبط بفكرة "التأليف قبل التكليف" التي رفضها كثيرون، ممّن اعتبروا أنّ الدستور كان "يوجِب" على رئيس الجمهورية الدعوة إلى الاستشارات الملزمة فور استقالة الحكومة، ولكنّهم لم يجدوا مانعاً في الدفع نحو تأجيلها بالأمس، وهو ما أكّده بيان رئاسة الجمهورية، الذي أرجع قرار التأجيل إلى "طلب معظم الكتل النيابية الكبرى من مختلف الاتجاهات".
وإذا كان مقرّبون من رئيس الجمهورية كشفوا أنّ الحريري نفسه طلب تأجيل الاستشارات، فإنّ موقف كتلة "اللقاء الديمقراطي" الذي أعلن الامتناع عن المشاركة في الاستشارات، أثار الكثير من اللبس، ليس فقط لأنّه كان "الشرارة الأولى" لتأجيلها، من باب الميثاقية، بعدما كان المُطالب الأول بإجرائها افتراضياً، ولكن لأنّه لم يصدر إلا بعد انقلاب المُعطيات، علماً أنّ النائب السابق وليد جنبلاط كان قد انخرط في "الاستشارات الجانبيّة" قبل أيام، حين أعلن عن تسليم أسماء مرشحين من غير الحزبيين، لملء المقاعد الدرزية في الحكومة العتيدة.
وفي وقتٍ سأل كثيرون عمّا إذا كانت الكتلة المعترضة على ما تصفها بأنها "استشارات معلّبة" ستحافظ على موقفها هذا إذا ما تمّ التوافق على تسمية الحريري مع نهاية هذا الأسبوع، كانت علامات استفهام تُطرَح عن موقف رؤساء الوزراء السابقين، الذين وردت في بيانهم الأخير، الكثير من المُصطلحات التي من شأنها إدانة المسار الذي دفعت دار الفتوى باتجاه، خصوصاً لجهة رفضهم "الاعتداء السافر على صلاحيات النواب بتسمية رئيس الحكومة المكلف"، و"ابتداع ما يسمّى رئيساً محتملاً للحكومة".
ويقول أصحاب هذا الرأي إنّ دار الفتوى في موقفها، لم تمضِ في منطق "ابتداع رئيس محتمل للحكومة" فقط، بل كرّست ما يمكن تسميته بـ"مرشّح أوحد" للحكومة، علماً أنّ صدور مثل هذا الموقف عنها، وهي التي يفترض أن تكون "بيتاً" لجميع السنّة، وبالتالي لأيّ مرشّحٍ يرغب في طرح نفسه للمنصب، طرح بدوره الكثير من علامات الاستفهام، خصوصاً أنّه يحمل بين طيّاته مصادرةً لدور النواب من ناحية، ويكرّس منطق "الطائفيّة السياسيّة"، التي يفترض أن يكون قد أصبح من الماضي، بعد "ثورة ١٧ تشرين".
المحكّ الأساسيّ...
قد يكون ما سبق غيضاً من فيض المفارقات المثيرة للجدل التي لا يمكن تعدادها، والتي إن دلّت على شيء، فعلى أنّ القوى السياسية الشريكة والخصمة في آن، لا تزال تغلّب مصلحتها على كلّ ما عداها، وعلى أنّها لا تجد حَرَجاً في "ابتداع" المَخارِج لنفسها، بل "الاجتهاد" في تفسير الدستور والقوانين وفقاً لغاياتها ومآربها.
الأكيد أنّ كلّ العقليّة التي سادت المفاوضات الجارية منذ استقالة الحكومة حتى اليوم خاطئة، وأنّ المطلوب من جميع القوى السياسية، بمختلف اتجاهاتها، إدراك أنّ شيئاً ما تغيّر في المعادلة، إذا لم يكن بفعل الحراك الشعبيّ الذي لا يزال كثيرون يقلّلون من حجمه، فعلى الأقلّ بسبب الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وخطر "الانهيار" الوشيك، الذي يوجب تغييراً ما.
بيد أنّ المحكّ الأساسيّ يبقى حول "جدية" الحراك نفسه، فهل يعتبر ما حصل في الساعات الأخيرة "شرارة" لإعادة بلورة تحرّكاته، وصولاً حتى إسقاط الحريري، ولو حظي بدعم المرجعيّات السنية، كما فعل مع الصفدي والخطيب وطبارة، أم يقرّر إعطاء الأخير "فرصة"، بذريعة "الطائفية" التي من شأنها أن تطيح بالأساس الذي بني عليه في الأصل؟!.