توحي المواقف السياسية السائدة في الطريق الى الاستشارات النيابية الملزمة المقررة الاثنين المقبل، انّ هذه الاستشارات محفوفة باحتمال التأجيل، خصوصاً اذا لم تحصل التوافقات المطلوبة على طبيعة التشكيلة الوزارية حجماً وشكلاً وأسماء ومواصفات لضمان ولادة حكومية سريعة تفرضها الاوضاع المتدهورة مالياً واقتصادياً في البلاد.
لم يقفل البيان الرئاسي، الذي أجّل الاستشارات من الاثنين الماضي الى الاثنين المقبل بعد إسقاط ترشيح المهندس سمير الخطيب، الباب أمام ترشيحات أخرى لرئاسة الحكومة، إذ انه تحدث عن إعطاء فرصة لمزيد من المشاورات بين الكتل النيابية ومع «الشخصيات التي يمكن تكليفها» تأليف الحكومة، ما يعني فتح باب الخيارات في التكليف. لكنّ بيان دار الفتوى بلسان الخطيب حصر الترشيحات والخيارات بالرئيس سعد الحريري من دون سواه، وبَدا بيان الدار أنه قد أُعد مسبقاً، وأريد للخطيب المرشح المسحوب أن يتلوه بعد زيارته مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان لإطفاء مزيد من الحصرية على ترشيح الحريري وتوجيه رسائل بهذا الخصوص في مختلف الاتجاهات.
فصحيح انّ قول المفتي دريان للخطيب (وفق البيان) انّ الطائفة السنية بقواها السياسية والشعبية اتفقت على تَولّي الحريري رئاسة الحكومة يقطع الطريق امام اي شخصية سنية أخرى تولّي هذا الموقع، فإنّ البعض يعتقد أنّ بيان رئاسة الجمهورية «ببيانها الاستشاري»، إذا جاز التعبير، يفتح الباب امام شخصيات أخرى غير الحريري، معبّرة بذلك عن امتعاضها من عودة الحريري الى حلبة الاستحقاق الحكومي لاعباً منفرداً متسلّحاً بدعم دار الافتاء والقيادات السياسية السنية التي تتحلّق حولها، من دون أن تكون هذه العودة استجابة للدعوات المِلحاحة التي كان وَجّهها اليه رئيسا الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه بري وحركة «أمل» و«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» منذ بداية الازمة الحكومية الى القبول بترؤس الحكومة الجديدة، فإذ به يعود عن عزوفه عن تولّي رئاسة الحكومة بترشيح دار الفتوى والبيئة التي ينتمي اليها، بدلاً من أن يكون ترشيحاً وطنياً شاملاً.
لكن مهمة الحريري قد لا تكون سهلة، حسب ما يتوقع البعض، خصوصاً انه كان طوال المفاوضات في شأن التكليف والتأليف التي أعقبت استقالته ولا يزال يتمسّك بتأليف «حكومة اختصاصيين» خالية من السياسيين، وعلى رأسهم رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، وهي حكومة يرفضها مرشّحوه الأوّلون، ويصرّون على حكومة تكنوسياسية تضم خليطاً من السياسيين والتكنوقراط، مع لحظ ان يكون الوزراء التكنوقراطيون الاكثرية الوزارية الساحقة في الحكومة.
ولكن هل يمكن بروز مرشحين آخرين يمكنهم منافسة الحريري على الرئاسة الثالثة في ظل إصرار المجتمع الدولي على عودة الحريري الى هذا الموقع؟
الواقع، تجيب أوساط معنية، انّ هناك عدداً من المرشحين لرئاسة الحكومة غير الحريري، ويتمتعون بمواصفات تؤهلهم لتولّي هذا الموقع الدستوري. ولكنّ احتمال نفاذ أحد منهم في هذه المرحلة هو احتمال ضعيف جداً، أولاً لأنّ المجتمع الدولي هو الذي أعاد الحريري الى الحلبة الحكومية متسلّحاً بـ«حكومة الإختصاصيين»، وهناك كتل كبيرة ستسمّي الحريري في الإستشارات، الى كتل أخرى لن تسمّيه، ولربما انبرى البعض الى تسمية آخرين غير الحريري على سبيل تسجيل موقف او توجيه رسائل الى من يعنيهم الأمر الحاضرين منهم في هذه العملية الديموقراطية او المستترين خلفها في الداخل والخارج.
ولكن البعض يقول انّ الحريري الذي يُتوقّع تكليفه بتأييد أكثرية نيابية معقولة، وفي حال عدم استطاعته تأليف حكومة يقبل بها الجميع، فإنه سيتعرض لخسائر سياسية فادحة، من شأنها ان تؤثر سلباً على مستقبله في الحياة السياسية اللبنانية، لأنّ الطريقة التي عاد بها الحريري عن عزوفه عن الترشيح لرئاسة الحكومة بعد المحرقة التي أصابت الاسماء التي كان رَشّحها لخلافته، لم يستسغها كثيرون، خصوصاً انّ الجميع كانوا يلحّون عليه منذ استقالته للعودة الى رئاسة الحكومة وكان يقابلهم بالرفض، او يشترط عليهم للقبول إطلاق يده لتأليف «حكومة اختصاصيين» خالية من أي «جنس او إنس» سياسي، مؤكداً أنّ ما آلت اليه أوضاع البلاد اقتصادياً ومالياً تفرض تأليف هذا النوع من الحكومات لكي تنصرف فقط الى معالجة هذه الاوضاع من دون غرق في مستنقع الخلافات والمناكفات السياسية.
الى الآن، يتمسّك الحريري، وهو في طريقه الى استشارات التكليف بـ«حكومة الاختصاصيين» التي تبيّن انّ المجتمع الدولي يطالب بها ويؤيّد تكليفه لتأليفها، وقد جاء الاعلان عن ترشّحه لهذه المهمة من دار الفتوى عبر بيان المرشّح المسحوب سمير الخطيب لملاقاة ترشيح المجتمع الدولي له والذي أثار حفيظة كثير من خصومه وغير الخصوم، الذين يتخوّفون من وجود مشروع خارجي، وأميركي تحديداً، خلف «حكومة الاختصاصيين»، يريد أخذ لبنان الى خيارات أصحاب هذا المشروع وفرض ما يُشبه الحصار على «حزب الله» وبيئته وحلفائه الذين بدأوا يتحسّسون هذا الحصار من خلال ما يشهده القطاع المالي والمصرفي من تضييق على الناس المودعين وغير المودعين في المصارف والموظفين في القطاعين العام والخاص، والذين يرون انّ الهدف من هذا المشروع هو تأليب الرأي العام اللبناني ضد «الحزب» واتهامه بأنه المسبّب لهذه الازمات.
لبنان، يقول قطب نيابي، لن يسقط مهما اشتد أوار الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية وحتى لو تأخّر تأليف الحكومة، لأنّ هذا البلد كان ولا يزال حاجة وضرورة للجميع من دول وقوى سياسية في الداخل والخارج.
ولذلك، يرى هذا القطب، أنّ ما يجري هو عملية «عض أصابع» غالباً ما تسبق نهايات الأزمات، فالجميع سيطرح كل أوراقه في لحظة حسم الخيارات على طاولة المفاوضات. إلّا انّ ما يخشى البعض منه هو ان يكون الدافع للحريري الى تقديم استقالته، هو نفسه الدافع الذي قد يمنع تأليف الحكومة الجديدة.