مع إسقاط اسم المرشح لرئاسة الحكومة سمير الخطيب، أسوة بسلفيه محمد الصفدي وبهيج طبارة، وقطع الطريق على أيّ مرشحٍ محتمَلٍ بتفويض ومباركة مرجعية دار الفتوى الدينية، ظنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري أنّ طريق عودته إلى السراي الحكوميّ، بشروطه وطلباته، فُرِشت بالورود أمامه أخيراً.
بيد أنّ رياح السّفُن لم تجرِ كما اشتهاها رئيس الحكومة المستقيل، ليُفاجَأ برئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل يعلن خروجه "طوعاً" من الحكومة، والاستعداد للانضمام إلى صفوف المعارضة، أو ما وصفها بالممانعة البنّاءة، وبالتالي حجب أصواته عن الحريري، ما يعني تكليف الأخير بأكثريّةٍ خجولةٍ ومحدودةٍ، ترقى لمستوى "الهزيمة".
قلب باسيل الطاولة، لكنّ الصورة لا تزال ضبابيّة. هل هي استقالةٌ حقيقيّة من المسؤوليّة، أم مناورة تشبه تلك المناورات التي تفنّن الحريري في ابتكارها على مدى الأسابيع الماضية؟ هل يمضي الحريري بالسيناريو المرسوم، بمُعزَلٍ عن الشكليّات، ومن دون غطاء "التيار"؟
وهل يُكتَب لجهوده أصلاً النجاح، في ظلّ أكثريّةٍ لن تقف على خاطره كما كانت تفعل، علماً أنّ أيّ حكومةٍ يشكّلها تتطلب توقيع رئيس الجمهورية، الذي يقول كثيرون إنّه لن يكون سهل المنال؟!.
أقلّ الخسائر!
مع تنصيبه مرشحاً أوحد لرئاسة الحكومة من قبل مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، اعتقد الحريري أنّ "زمن المناورات" ولّى، وأنّه سيتمكّن من انتزاع "بطاقة" التكليف المُطلقة من "الشركاء-الخصوم" بالضربة القاضية، بعدما عجز عن ذلك "بالحُسنى"، باعتبار أنّ كلّ الخيارات البديلة سقطت تلقائياً، خصوصاً أنّ حكومة المواجهة أو اللون الواحد مرفوضة بالمُطلَق من الأكثرية، وتحديداً من الثنائي الشيعيّ.
لكنّ ما لم يحسب الحريري حسابه أن "ينقلب" باسيل عليه، بدل أن يخضع لشروطه، ويوافق على مطالبه، على رغم إدراكه أنّ الأخير ليس ممّن يقبلون بـ"الهزيمة"، و"الهزيمة" كانت مرادفة لأيّ تركيبةٍ حكوميّةٍ يحضر فيها الحريري ويغيب عنها وزير الخارجية، مهما كانت الأسباب، خصوصاً بعدما حاول "الوطنيّ الحرّ"، ومنذ استقالة الحكومة، فرض معادلةٍ واضحةٍ تربط مصير باسيل بالحريري، بحيث إما يخرجان معاً من الحكومة، وإما يعودان معاً إليها.
من هنا، يرى كثيرون أنّ خطوة باسيل غير المفاجئة عملياً، تشكّل "أقلّ الأضرار" بالنسبة إليه، ليس لأنّ موقع المعارضة، مع ما يحمله من "شعبويّة"، يمكن أن يرفع أسهمه التي انخفضت، ويجعله مُطلَق اليدين أكثر، ولكن لأنّ مشاركة تكتّله في حكومةٍ فُرِض عليه الخروج منها لن يكون "انتصاراً"، مهما حاول تجميله أو تبريره، في ظلّ "الفيتو" الذي بات واضحاً أنّ الحريري يضعه على حضور وزير الخارجية في الحكومة، ويرفض أيّ نقاشٍ فيه من الأصل، لاعتقاده أنّ حكومةً تضمّ باسيل في صفوفها ستسقط تلقائياً.
وإذا كان باسيل لم يوفّر حليفه "حزب الله" من الانتقادات، لناحية إصراره مع "حركة أمل" على حكومة تكنو-سياسية برئاسة الحريري أو من يرضى عنه، على رغم أنّ مصيرها سيكون الفشل أسوة بسابقتها، فإنّ ثمّة من يرى أنّ "الانتقاد" نابعٌ من قطع "الحزب" أيضاً الطريق على أيّ بدائل كان باسيل يدفع باتجاهها، ومن بينها حكومة الأكثرية أو اللون الواحد، علماً أنّ التجربة أثبتت عجز ما تسمّى بـ"حكومات الوحدة" عن تحقيق أيّ أجندةٍ إصلاحيّة في الظروف العاديّة، فكيف بالحريّ في ظروفٍ استثنائيّة كالتي يشهدها لبنان اليوم.
خسارة مُضاعَفة!
بالنسبة إلى المحسوبين على "التيار الوطني الحر"، باتت الكرة مجدّداً في ملعب الحريري، الذي عليه أن يتّخذ قراره بناءً على المستجدّات، أو أن يتحمّل المسؤوليّة كاملة، وهو ما لا يخفي "عونيّون" كثر رغبتهم به، لاعتقادهم بأنّ "الانهيار" إن حصل، فهو بسبب السياسات الاقتصادية التي وضعتها ما باتت تُعرَف بـ"الحريريّة السّياسية"، علماً أنّ الوزير باسيل سهّل له المهمّة، برأيهم، بإعلانه صراحةً "خريطة حلّ" تقوم على الذهاب إلى تشكيل حكومة اختصاصيّين من رئيسها إلى وزرائها، بعيداً عن شعار "أنا أو لا أحد" الذي اختاره رئيس الحكومة المستقيل عنواناً للمرحلة، وإن تنصّل منه ظاهرياً.
لكن، سواء سار الحريري بهذا السيناريو أم لم يفعل، فإنّ الخسارة تبدو "مُضاعفة" بالنسبة إليه، فهو إن اختار السير بحكومةٍ لا يتوفّر لها غطاء باسيل، طالما أنّ الأخير قال إنّه لن يحرّض ولن يعرقل، سيكون عليه اجتياز الكثير من "المطبّات" التي ستكون مفروشة بـ"الشوك"، أولها استشارات التكليف، التي قد تسجّل للحريري أدنى نسبة أصوات حصل عليها رئيس حكومةٍ مُكلَّف منذ سنوات، خصوصاً إذا ما حجب "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" أصواتهم عنه، إضافة إلى "الكتائب" والنواب المستقلّين، وربما "القوات" إن لم تعُد عن قرارها السابق بعدم تسمية أحد، وهذه خسارة "معنويّة" ستكلّف الحريري الكثير، ولا يمكن الاستهانة بها، ولو أنّ النتيجة ستكون واحدة، سواء أتى بإجماعٍ كما يحلو له، أو بأكثريّة خجولة كما توحي الوقائع.
ولعلّ ما يزيد من وقع هذه الخسارة "المعنويّة"، خروج أصواتٍ من الشارع ترفض الحريري، ولو كان الأخير يتّكئ على ما يعتقد أنّها "أكثرية شعبيّة" مؤيّدة له، بعدما نجح في "ركوب موجة" الشارع منذ استقالته من الحكومة، إلا أنّ ذلك كلّه لا ينسجم مع السيناريو الذي كان يرسمه لنفسه، بأن يعود رئيساً للحكومة على حصانٍ أبيض، وبناءً على مطلب الجماهير، كما لو كان "المُنقِذ" الوحيد في الجمهورية. وإضافةً إلى ذلك، يدرك الحريري جيّداً أنّ مهمّته لن تكون سهلة، بل إنّ تكليفه، إن حصل، لن يكون سوى مقدّمة لأزمة تأليفٍ طويلة، ستنتهي عاجلاً أو آجلاً باعتذاره، خصوصاً أنّ أحداً لا يتصوّر أنّ رئيس الجمهورية سيكون ميسّراً لعمله، وهو الذي يمتلك "سلاح" عدم التوقيع على أيّ صيغةٍ حكوميّةٍ لا يرضى عنها، وهو "سلاحٌ" استخدمه في الحكومة السابقة، وأدّى إلى "تطيير" أكثر من تركيبةٍ وضعها الحريري ولم تبصر النور.
"المناورات" مستمرّة!
عموماً، يبدو أنّ حرب "المناورات" لم تنتهِ فصولاً بين مختلف الأطراف المعنيّين، "مناورات" قرأها البعض خلف حروف بيان الوزير جبران باسيل، الذي تنصّل بشكلٍ لافتٍ من حكومةٍ تكنو-سياسية، قال إنّ مصيرها سيكون الفشل الحتميّ، علماً أنّ فريقه كان يضغط لتشكيلها، وأنه لم يكن ليرفضها لو كان جزءاً منها، كما بات معلوماً.
وإذا كانت كلّ القراءات توافقت على كون خطوة باسيل "قلباً للطاولة"، فإنّ ثمّة من رأى فيها "مناورة" تشبه في الشكل والمضمون "مناورات" الحريري، الذي كان يقول جهاراً "ليس أنا بل أحد آخر" وفي السر "أنا أو لا أحد"، في حين يقول باسيل اليوم إنّه لا يريد المشاركة في الحكومة، في مسعى لتحسين شروطه التفاوضيّة، وهو يدرك أنّ أيّ حكومةٍ من دونه ستصطدم بأكثر من "فيتو"، ولن تستطيع أن تبصر النور.
ووسط لعبة المناورات والشروط المتبادلة، ثمّة من يسأل، هل يدرك الحريري وباسيل أنّ "اللعبة" تغيّرت على الأرض، وأنّ الشارع انتفض عليهما سوياً، كجزءٍ من الطبقة السياسية، وليس لمساعدة أيّ منهما لينتفض على الآخر؟! وقبل هذا وذاك، هل يدركان أنّ أحداً لم يعد يمتلك "ترف" هدر الوقت جزافاً،في ظلّ خطر "الانهيار"، الذي يحاول الجميع رمي مسؤوليته على الآخرين؟!.