يُشير متّى الإنجيلي إلى حقيقة أنَّ يسوع سيُولَد مِن عذراء: "وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيُدعَى اسمُهُ عِمّانُوئِيل"(أش7: 14). عُذريّة مريم يتحدّث عنها حزقيال النّبي بقوله: "إنيّ رأيتُ بابًا ناحيَةَ المَشَارِق، الرَّبُّ المُخلِّصُ دَخَلَ إليهِ، وبَقِيَ مُغلقًا جَيِّدًا بِحالِهِ"(حز44 :1-2). هذا الباب هو حشا مريم. وهذا الحشا هو الهيكل المُقدّس الذي قَبِل الحَمْل بيسوع من دون تدخّل وزرع رَجُل، وإنّما من الرّوح القدس" اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ" (لو1: 35). وهذا الباب يدخل ويخرج من خلاله فقط "شمس البر"(ملا 4: 2).
لَم يختر الله لإبنه أن يولَد من أميرة ولا من فتاة ذائعة الصّيت، بل اختار فتاةً عذراء "لَم تعرف رَجُلاً أبداً" لتكون أُمّاً لابنه المتجسّد(لو1: 34).
وهذه الفتاة التي تُدعى مريم، هي عذراء، قبل الميلاد، وفي الميلاد وبعد الميلاد. حقيقةٌ لاهوتيّة نؤمن بها ونُعلِنها في صلاتنا ونحن نستعِدُّ لمجيء المُخلِّص:
-هي عذراءٌ قبل الميلاد، بمعنى أنَّ حَملها تمَّ بقوة الرّوح القدس في سرّيةٍ تامّة.
-وهي عذراء في الميلاد، بمعنى أنّها لَم تخسر عذريّتها بفعل الولادة، فكما حلَّ فيها خرج منها. وفي تعبيرٍ فَرِحٍ عن هذه الحقيقة اللاهوتيّة يهتف القدّيس غريغوريوس أسقف نصيبين قائلاً: "يا لَلْمعجزة الرائعة: العذراء تصير أمًّا وتبقى عذراء. لا البتوليّة حالت دون الولادة ولا الولادة أزالت البتوليّة".
-وهي عذراء بعد الميلاد، بمعنى أنّها لَم تعرِف رَجُلاً بعد ميلاد ابنها، ولَم يكن لها أولاداً إلاّ يسوع المسيح. وأمّأ عبارة "البِكر"، فهي تعني الولد الأوّل "فاتِح الرَّحِم"(لو2: 23)، سواء أنجبت الأمّ بعده ولداً آخر أم لَم تُنجِب. وفي هذا الإعلان تناغم مع إيماننا المسيحي الذي يشهد بأنّ الذي حبلت به مريم هو يسوع ابن الله.
اختارت مريم أن تقبل الحَمْل بابن الله وهي عذراء، بحريتها الكاملة. وبهذه الحريّة اختارت أيضاً أن تُكرّس حياتها لابنها على الدّوام، وبشكلٍ لا عودة عنه، على ما نقلته إلينا الأناجيل الأربعة وكتاب أعمال الرّسُل.
تُعلّمنا عُذرية مريم التكرّس النهائي للربّ، الذي هو التزامٌ دائم غير محدود بوقت ما أو بمدّة مُعيّنة، بل يمتدّ على كامل الحياة. أن نُكرّس حياتنا للربّ، معناه أن نقبل بسيادته على حياتنا، بالتالي أن نسير معه الطريق إلى النهاية، حتى ولو حدث أن تضمّنت بعض السقطات. اتّباع يسوع هو اتّباع نهائي لاعودة عنه، وإلا سيكون اتّباعاً مؤقّتاً والمؤقت ليس اتّباعاً، بل هو مراهقة نعيشها على الدوام، تجعلنا ننجذب للأشياء الفضفاضة التي لا تدوم، على حساب ما يجعل حياتنا خصبة.
لنُصلّي إلى الربّ بشفاعة أمّه العذراء مريم، لكي يُعطينا شجاعة اتخاذ هذا القرار العظيم باتّباع الربّ إلى النهاية في كامل الطّاعة والحرية لِمَن رَضي بأن يولَدَ في العالم ليمنحنا الحياة. آمين.