من اليوم وإلى موعد الإستشارات النيابية المؤجل إلى صباح الخميس المقبل سينسحب الرئيس سعد الحريري من معركة التكليف تدريجياً . صحيح أنه عجز عن تأمين مظلّة مسيحية لتكليفه بخذلان "حليفه " المفترض رئيس حزب القوات سمير جعجع ، إلاّ أن الأزمة اللبنانية أعقد من إيجاد غطاء ميثاقي لحكومة يُراد تحميلها اكثر مما يحمل لبنان في ظلّ تركيبته التي أرساها اتفاق الطائف بعد حربٍ أهلية طاحنة استمرت خمسة عشر عاماً وذهب ضحيتها اكثر من 120ألف قتيل.
وبالتالي فإنّ السبب الذي سوف يعزيه الحريري لانسحابه وهو فقدان الميثاقية المسيحية ليس سوى غطاءٍ لانسحاب تكتيكي بانتظار تبدلات بالمناخَين الدولي والإقليمي. ما يُراد هو تغيير" ميزان الطائف" وإعادة رسم الخط البياني للسلطة وللحكم في لبنان بقوة التغوّل الإقتصادي ، الأداة الوحيدة التي تستطيع الولايات المتحدة الأميركية الضغط من خلالها وعدا ذلك فإنّه كمن يريد ترجيح كفّة من دون مرجّح ، والحريري أضعف من أن يستطيع التصدّي لما يُطلب منه ، وسوف يجد بأنه لا مناص من التنحي جانباً حتى تقتنع الولايات المتحدة والسعودية ومن معها بأن ما يطلبونه سيطيل الأزمة وسيفاقم الإنهيار وسيفتح الردود على كل الإحتمالات.
في الظاهر، يتعثر الحريري في تأمين الميثاقية المسيحية بسبب حزبين مسيحيَين متناقضين في السياسة والرؤية والأهداف ، أحدهما حليف والثاني شريك تسوية أعادته لكرسي الحكم مرّة، ومدت له طوق النجاة إبّان احتجازه في السعودية مرّة أخرى. لكن الحزبان في أوج صراعهما، رفضا سوياً تسمية الحريري كل لاعتباراته الخاصة . وإذا كان مفهوماً ما يطالب به الوزير جبران باسيل لجهة توحيد المعايير للمشاركة في الحكومة ووضع نفسه على قدم المساواة مع الحريري لجهة المشاركة أو عدمها ، فما حجّة جعجع لعدم السير بتسمية "حليفه" الذي أعلن مراراً بأنه لن يشكلّ، بحال تم تكليفه، إلاّ حكومة اختصاصيين !؟ على الأقلّ هذا ما أعلنه الحريري وهو نفس ما يطالب به جعجع.
والواقع أنّ الحريري وجعجع يقرآن في كتابين مختلفين. فالأول يرى بأنّ حكومة الإختصاصيين قابلة للمفاوضات مع الثنائي الشيعي ورئيس الجمهورية على أمل فتح كوة يمكن من خلالها النفاذ إلى حلٍّ وسطي مقبول من الداخل والخارج . أما الثاني فيرى ضرورة التغيير الجذري في الحكومة واستئصال كل من حزب الله والتيار الوطني الحر من الحكومة ولاحقاً من إدارات الدولة ومن السلك الدبلوماسي في الخارج الذي يسيطر عليه الوزير جبران باسيل منذ تولّيه وزارة الخارجية، كما يرفض منح حزب الله أي فرصة محتملة للوصول إلى حلٍّ للأزمة الحكومية بغير خروجه منها. وجعجع الذي اشتهر بإنقلاباته العسكرية والسياسية وخسر كل رهاناتانه في كل المراحل، وخرج من سجنه بخروج سوريا من لبنان وبتَغَيُر الواقع السياسي اللبناني، لم ينس حرفته وهوايته بتنفيذ الإنقلابات، ولو على أقرب حلفائه.
تعددت الأسباب والإنقلاب واحد. شعار جسّده السلوك العسكري والسياسي ل"قائد" القوات اللبنانية. وإذا افترضنا أن للحرب الأهلية ظروفها وحساباتها الخاصة، تأتي الوقائع اللاحقة لتثبت بأنّ الطبع يغلب التطّبع وبأن السلوك لم يتغير بتبدّل الظروف، إنما هي سُنّة جعجعية لا تسقط بتقادم الزمن. أول طعنة تلقاها منه الحريري عندما سار بطرح القانون الأرثوذكسي وشكّل الأرضية التي فرضت القانون الحالي الذي سلب حليفه الأزرق خمسة عشر نائباً. ومن بعدها عقد اتفاق معراب مع التيار الوطني الحرّ ليطوي صفحة ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية ويجبر الحريري على السير بالعماد ميشال عون رئيساً بحكم الميثاقية المسيحية، وما لبث أن انقلب على الإثنين معاً ، فسارع لنعي الحريري بعد احتجازه في السعودية قبل عامين، وعقد مصالحة مع الوزير سليمان فرنجية، لا حباً بالأخير، بل كرهاً بباسيل. كان أول المستقيلين من حكومة الحريري الأخيرة، وأول المانعين لأصواتهم لإعادة تكليفه.
يظنّ جعجع بأنها الفرصة المناسبة لسحب بساط التمثيل الشعبي من تحت أرجل التيار البرتقالي وتصفية كل الحسابات في دفاتره القديمة-الجديدة المفتوحة، متناسياً، أو غافلاً، عن أن الورقة البيضاء هزمته في أول جلسة انتخابات رئاسية، وأنّه قبل كل ذلك، تكمن مشكلته مع المجتمع اللبناني والعربي و الدولي ( شعبياً وفي بعضه رسميا) بأنه لن يتقبل رئيساً من أصحاب السوابق.!