«فمن ذا عاذري من ذي سفاهٍ يرودُ بنفسه شـرّ المـرادِ
لقد أسمعت إذ ناديت حيّـا ولكن لا حياة لمـن تنـادي
ولو نارٌ نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في الرمـادِ
أريد حياته ويريـد قتلـي عذيرك من خليلك من مُراد» (مرو بن معد يكرب الزبيدي)
أواخر الستينات، ولعقدَين لاحقَين، كنت ممّن اعتبروا أن لا اعتبار للبنان، إن ذهب أو بقي، إن عُمّر أو دُمّر، حتى وإن فني بعض شعبه أو جلّه، عندما تأتي الأمور للمقارنة مع القضايا الكبرى. كانت القضايا الكبرى بالنسبة إليّ (أو إلينا) تبدأ بفلسطين، لتمرّ بالوحدة العربية، وصولاً إلى الأممية الاشتراكية.
ببساطة، كنّا نظنّ أنّ لبنان ما هو إلّا تفصيل بسيط في المعادلات الإنسانية الكبرى، وطالما أنّ كلّ واحد منّا كان مستعداً للتضحية بروحه من أجل «الخير الأكبر»، فما همّ عدد الضحايا، وما همّ الدمار والتشرّد والهوان والذلّ للناس، ما دام الهدف هو «الأفضل!»
لكن، بصراحة، لم يقف أيّ واحد منّا يوماً، كما فعل سقراط منذ ٢٤٠٠ سنة ليقول «قبل أن تصف الأفضل، اشرح لي بالتحديد ماذا يعني الأفضل؟».
أنا لم أعد أعلم، بعد ستة عقود من العمر، كيف تمكّنّا في شبابنا من تحديد الأفضل، إلّا بشعارات خالية المضمون. اليوم أسأل: «لماذا فلسطين أهم من لبنان؟» بعد أن نسي حتى الفلسطينيون فلسطين، إلّا في الأشعار والبكائيات!
«لماذا الوحدة العربية أفضل من دول عربية؟»، هذا إن كنّا قادرين على تسمية تلك المنظومات الرملية دولاً! واليوم نرى كيف تحوّل تجّار الشعارات الوحدوية قادة عصابات مسلحة وزعماء عشائر وحماة ألوية المذهبية القاتلة والمنتحرة معاً!
كيف صدّقنا كلام الوحدة وقَتَلنا وقُتلنا من أجله، يوم كان واضحاً أنّ الكلّ كان يتاجر فقط، سلباً أو إيجاباً، لبقائه في السلطة، متخفياً تحت شعار الوحدة و«رسالة الأمة الخالدة» و«الزعيم الخالد إلى الأبد وما بعد الأبد!».
أمّا عن كون المشاريع الأممية أفضل، ولا بأس حتى لو فنت الدنيا من أجل الأفضل المجهول؟ فاليوم سقطت الأممية الاشتراكية يوم سقط جدار برلين، فماذا سأقول لأهل رفيقي شهيد فلسطين والعروبة والأممية بعد أن جئتهم منذ أربعين سنة للمباركة لهم بفقدانهم فلذة أكبادهم؟ كيف لا أشعر بوخز الضمير اليوم لمجرد استغرابي دمعة أمه وصمت والده وثورة أخيه عليّ وعلى فلسطين والعروبة والأممية؟
بصراحة، أنا حتى اليوم بقيت أتجنب حتى المرور في الحي حيث كان يسكن رفيقي، مع علمي أنّ والديه ماتا منذ زمن طويل، وإخوته هاجروا دون عودة، لاجئين إلى الكيانات التي كان أخوهم الشهيد يقاتل حتى قُتل لفنائها، فوجدوا هم ملاذاً فيها من حفلة الجنون التي ما زلنا نحيا نحن فيها.
«على من تقرأ مزاميرك يا داود؟».
أنا أعلم أن لا أحد يسمع، ولا أحد يرى، وقد لا يشعر حتى، فكما وصف الفيلسوف «هرقليطس» البشر بأنّ معظمهم «نائمون لأنهم لا يسمعون، وإن سمعوا فلا يتذكرون!» لكن الذكرى قد تنفع ذوي الألباب.
صدق الإمام علي بقوله «ما أكثر العبر، وأقلّ الاعتبار»، فكلما ذكّرت أحداً من الممانعين، الصادقين منهم والكاذبين، بأنّ عبرة تجارب وضع لبنان بين حجرَي رحى الشعارات والشعائر، العقد والعقائد، الانعزالية والأممية، الطائفية والعلمانية واضحة وضوح الشمس بنتائجها المدمرة على البشر والحجر وعلى كل آمال الناس وأفراحهم، بعد أن «تكسّرت النصال على النصال»، ولم يعد فينا حتى مساحة جلد لتُجرح، وإن جُرحنا فلن ينزف الجرح بعد أن جفّت دماؤنا.
في كلّ مرّة كنت أسمع الطبول الممانعة تردّد الأغنية ذاتها بأبياتها التالية، أو ما يشابهها:
«لقد استفدنا من تجارب الآخرين ونحن الآن في حال أفضل!»
«لم يكن الآخرون مؤمنين بقضيتهم كما نؤمن بها نحن بشكل أفضل!»
«الآن المعادلة الدولية هي لمصلحتنا وسلاح المقاومة أقوى وأفضل!»
«أنتم جيل الهزائم ونحن الجيل الأفضل وعلى يدنا سيتحقق النصر!»
«نحن أفضل منكم لأنكم متأثرون بدعاية الأعداء!»
«نحن أفضل منكم لأنّنا صادقون ومؤمنون وأنتم عملاء!»
إلى ما هنالك من أبيات تصل فيها عقوبة السامع الغافل المسكين إلى الإعدام بتهمة الخيانة العظمى، لولا رحمة الممانع العظيم الذي يخرج ليمنّنا كل يوم بأنّه صابر على وجودنا لرقة قلبه وحسن طباعه، في حين أننا نستأهل الويل والثبور وفظائع الأمور مثل الموت في سجن ممانع أو الاختناق بالغاز الممانع أو الدهس تحت جنزير دبابة ممانعة أو الفناء بمتفجرة ممانعة مركونة في شارع يمرّ فيه «الخونة» الغافلون المعتمدون على طيبة طباع القائد الممانع!
ماذا يعني ما أقوله؟
كل تلك المقدمة الطويلة أتت للتعليق على الهجوم «الممانع الوطني الغيور» على خيمة كان بعض «عملاء الصهيونية» الأكاديميين يبحثون فيها مسألة الحياد وأهميته لاستقرار لبنان ولإعطائه فرصة ليأخذ بعض النفس بعد نصف قرن من دفع فواتير الصراع الذي تسبب به العالم بزرعه الدولة الغاصبة في فلسطين. هؤلاء الشبان الغيارى لا يبدو أنهم كانوا يستمعون لما كان المحاضرون يتحدثون عنه، ولو سمعوهم لربما كانوا ساقوا الحجج المقنعة لرفض مبدأ الحياد فأقنعوا المحاضرين بخطأ دعواهم!
ولربما كانوا أقنعوا اللبنانيين بأنّه من المفيد لاقتصادهم ولاستقرار بلدهم وتثبيت سعر صرف الليرة وتأمين المزيد من الضمانات الاجتماعية وتشجيع الاستثمارات وتوفير فرص العمل للشباب هو بالانغماس أكثر في الصراع وخدمتهم للمحاور بوظيفة مطلق للصواريخ ومتلقٍ لها! ولربما أيضاً لكانوا أقنعوا المتخاذلين بأنّ الكرامة والنصر أهم من العلم والطبابة واللقمة الحلال! لكنهم أتوا بالنار وأحرقوا الخيام، وحرموا أنفسهم من فرصة إقناعنا بصوابية رأيهم.