على وقع السجال القائم حول تشكيل الحكومة المقبلة وصيغتها، تكنوقراط أم تكنوسياسية، هناك معادلة واضحة تتعلّق برئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، الذي يبدو أنه أكثر الأفرقاء "تكبيلاً" على مستوى الخيارات المتاحة، لا سيما بعد حصر دار الفتوى رئاسة الحكومة بشخصه دون أيّ شخصيّة أخرى، على أثر إسقاط التسوية التي كانت تقوم على أساس الإتفاق على تسمية المهندس سمير الخطيب.
على هذا الصعيد، قد يكون من باب الإنصاف قراءة واقع الحريري بشكل مختلف عمّا يحصل اليوم، لناحية توجيه الإتّهامات المباشرة وغير المباشرة له، فهو من حيث المبدأ يدفع ثمن لحظة إقليميّة ودوليّة حرجة، تترافق مع تحرّكات غير مسبوقة على مستوى الشارع، عنوانها الأساسي الرغبة الأميركيّة في الإنقلاب على نتائج الإنتخابات النّيابية الأخيرة، وبالتالي إخراج "حزب الله" من الحكومة عبر الدعوة بالذهاب إلى حكومة تكنوقراط.
ضمن هذا السياق، يمكن العودة إلى الضغوط نفسها التي فرضت على الحريري الإستقالة، في الوقت نفسه الذي كانت القوى التي تشكل الأكثرية النيابية تؤكد دعمها له، ثم الإصرار على إعادة تسميته لرئاسة الحكومة المقبلة، على أن تكون تكنوسياسية، الواقع الذي ذهب رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى توصيفه بأنه قدّم لرئيس حكومة تصريف الأعمال لبن العصفور لأجل أن يقبل بالعودة الى رئاسة مجلس الوزراء ضمن صيغة تكنوسياسية يكون تمثيل الأحزاب فيها ضعيفا.
بناء على ما تقدم، يمكن القول أن الحريري يقف اليوم بين حدّين: الأول الضغوط الخارجيّة التي تمنعه من الذهاب إلى تسوية جديدة مع القوى التي تشكل الأكثريّة النّيابية، تقود إلى تشكيل حكومة تكنوسياسية، أما الثاني فهو رفض تلك القوى منحه الغطاء النّيابي لتشكيل حكومة تكنوقراط برئاسته، وبالتالي عدم قدرته على المبادرة ضمن هذين الحدّين، الأمر الذي يرجّح عدم الخروج من هذه الدائرة المفرغة إلا بعد تبدل الظروف الإقليميّة والدوليّة القائمة.
منذ 3 سنوات وخلال إنشغال الدول الغربيّة والاقليميّة بحرب سوريا واليمن، انعطف سعد الحريري باتجاه الرئيس ميشال عون، ووقّع التسوية الرئاسية مع وزير الخارجية جبران باسيل، وتمكّن من إقناع بعض جمهوره وقياديي تياره بأن التسوية هي أفضل الممكن، وأقنع السعوديين يومها بأنه سيتمكن عبرها من استمالة الرئيس عون وإبعاد التيار الوطني عن حزب الله. وقتذاك قالها السعوديون للحريري بأن "تتحمّل وحدك النتائج"، وها هو اليوم يتحمّل النتائج.
بعد التسوية الرئاسيّة خسر الحريري نسبة من شارعه، وباتت عبئاً عليه في الإنتخابات النيابية، وما بعدها، إستغلّها القريب منه والبعيد عنه، ولم يرحمه سياسيا أركان التسوية، فخسر ما يزيد عن نصف كتلته النيابية، واليوم يدفع ثمنها أيضاً، فالحلفاء سابقا تركوه وطعنوه، والسعودية حليفة الولايات المتحدة الاميركيّة سحبت يدها منه وتتّجه نحو نوّاف سلام، بقي الشيخ سعد في حيرة سيّاسية لا يمكنه تخطّيها لوحده، فمن كان يظن أنه يتعامل بحنكة مع الحراك وتداعياته وجده الآن في زاوية سيّاسية بلا خيارات تُذكر.
من شبه المستحيل بهذه اللحظة أن يعود رئيس الحكومة المستقيل الى التسوية السابقة أو ما يشابهها، ويقول البعض أنّ أفضل ما يمكن له فعله اليوم هو استثمار استقالته الأخيرة بالشارع وإعلان رفضه ترؤس الحكومة المقبلة على أن يسمّي مرشّحاً نظيفاً يُرضي الشارع الغاضب، ولكن بهذه الطريقة يكون قد حكم على مستقبله السياسي بالإعدام، خصوصا اذا ما شهدت المرحلة المقبلة انفتاحا على سوريا وتسويات كبرى يكون خارج صورتها، وأيضا لا يمكن له تحدّي القرار الأميركي-السعودي الحالي والتوجّه نحو حكومة تكنوسياسية قد تعني خسارة المزيد من شارعه وكل الدعم الدولي له، ما يعني أن كل الخيارات التي كان يملكها "الحريري" القويّ، باتت مُرّة، والدعم الطائفي الذي لقيه من دار الفتوى لم يجده لدى طوائف أخرى، دينية وسياسية.
لم يعد أمام الحريري سوى خصوم الأمس الذي يمكنهم مدّ يد العون له، وكل ذلك يجعلنا نقول، ألاّ تطلبوا من الحريري ما ليس باستطاعته القيام به الآن، و"ارحموا عزيز قوم ذلّ".