في فيلمه "الرقص مع الذئابLa Dance avec les loups "الذي حاز شهرة عريضة وحصل على سبع جوائز أوسكار في العام 1990 يحاول "كيفن كوستنر" تظهير الوجه الجميل من الرجل الأبيض في آخر معاقل الهنود الحمر، ليظهر أنّ الأميركيين ليسوا دمويين او إلغائيين، بل لا تنقصهم موهبة الحوار، ونشر المحبة حتى مع الأعداء... ولكن في النهاية يتم اقتلاع قبيلة "السيوكس" الهندية وأخواتها من أرضهم، ويتغلّب العقل الشرير في الرجل الأبيض، ويتم مسحهم من أميركا.
استهلالًا، علينا أن نعترف إنّ الساحة الاقتصادية، ولعبة المال هي الملعب المفضّل للأميركيين، وإنّ الثورات الملوّنة هي ميدانهم المفضّل، وإنّ واضعي نظرياتهم في هذا الميدان، ابتداءً من جين شارب إلى اليوم، ابلوا بلاءً حسنًا في الكثير من الساحات، وتراكمت لديهم الخبرات الهائلة التي أضافوها إلى رصيد محترم من التنظير والرؤى. ونريد القول أيضًا إنّ ما يريده الأميركي، أو يخطط له ليس مقدّسًا ولا منزلًا، وبالتأكيد هو ليس قدرًا. وهذا ما أثبتته التجربة، وليس التمنيات، فما أراد المحافظون الجدد تحقيقه منذ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 ،وفي مرحلة الفوضى الخلاقة، لم يحصلوا حتى على القليل منه في السياسة، في البلدان التي احتلوها، او في بؤر الفوضى التي أوقدوا فيها نار الفتنة. وهذا ما حذّر منه كبار المفكّرين والخبراء، من أمثال زبغنيو بريجنسكي وبرنت سكوكروفت وبعدهم ريتشارد هاس، مع بدايات التورّط الأميركي في «وحول الشرق الأوسط»، لكنهم لم يجدوا آذاناً صاغية. القادة العسكريون بدورهم توصّلوا بسرعة إلى الاستنتاجات نفسها. وقد عكست التقارير الثلاثة التي أصدرتها إدارة ترامب في العام 2018 قناعاتهم تلك. ومن الجدير بالذكر أيضًا أنّ لبنان ليس هو المنطقة الرخوة في المنظومة السياسية في الشرق الأوسط.
الانزياح في النظام الدولي، والكباش الاميركي الأوراسي
تتأثر معظم الدول عادة في المتغيرات الدولية، وما يشهده العالم اليوم، هو انزياح في ترتيب النظام الدولي القائم منذ سقوط جدار برلين في العام 1989، هذا النظام الذي فرض نفسه سريعًا على الوضع اللبناني إنهاءً لخمس عشرة سنة من الاحتراب الداخلي، وتعويمًا لاتفاق الطائف الذي كان يواجه مأزقًا في كيفية تنفيذه، إلا بعدما تقاطع الموقف السوري مع الموقف الأميركي عقب دخول صدام حسين إلى الكويت في 2 آب 1990. وقد أتت الحرب السورية لتفتح كوّةً في الجدار الصلب للأحادية القطبية، عبر التدخل الروسي في الحرب السورية، أو عبر الفيتوات الروسية الصينية المتكررة في مجلس الأمن، منعًا من استفراد سوريا كما فعلوا مع العراق وليبيا.. يناقش الباحث السياسي فريد زكريا الصيف الماضي في مجلة «فورين أفيرز» أسباب تراجع النفوذ الأمريكي في العالم، وما إذا كانت الولايات المتحدة قد تسببت في خسارة هيمنتها بنفسها.يشير فريد زكريا إلى أنَّه في وقتٍ ما من العامين الماضيين، انتهت الهيمنة الأمريكية، التي كان عصرها قصيرًا وطائشًا في رأيه. إذ استمرت لنحو ثلاثة عقودٍ ميزها انهياران؛ بدأت مع انهيار جدار برلين في العام 1989، والآخر كان هو الذي شكل النهاية أو البداية الفعلية للنهاية، في العراق في العام 2003، ليبدأ الانهيار البطيء منذ ذلك الحين. ويقول "مارتن انديك" في مقالته الموسومة بعنوان "العودة إلى لعبة الشرق الأوسط العظيمة":لا يوجد مكان في العالم اليوم حيث الفوضى أكثر انتشارًا، وأولوية إعادة فرض النظام أولى بالاهتمام من الشرق الأوسط. “اللعبة العظيمة” بين القوى العظمى المتنافسة ربما بدأت في أواسط آسيا، ولكنها وجدت أقسى صورها تطرفًا في “ملتقى طرق الإمبراطورية”، في الشرق الأوسط. لا يمكن للولايات المتحدة أن تكف عن اللعب، طالما وجدت اهتماماتها هناك. بدورها، قالت نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركية سابقًا لشؤون الخطط والقدرات الاستراتيجية "مارا كارلين" في حلقة حوار الصيف الماضي بعنوان "لبنان والولايات المتحدة الأميركية مسار معقد، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً" إنّ أولويات أميركا لم تعد الشرق الأوسط والإرهاب، بل مواجهة روسيا والصين.وإن الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب لم يعودا يتمتعان بالأولوية بالنسبة الى استراتيجية الولايات المتحدة الجديدة، بل الأولوية الآن هي لمواجهة الصين وروسيا لتأمين أوروبا وآسيا".لذا، يتوجب على الإدارة الأميركية أن تعيد ترتيب أولوياتها من أجل وجود أوروبا وآسيا في منطقة آمنة تحت المظلة الأميركية"، وهناك "شعور متنام بأن النظام العالمي الذي أبصر النور بعد الحرب العالمية الثانية بدأ يتزعزع".
التبدّل في موازين القوى محليًا
يأتي الأميركيون متأخرين خطوة زمنية، فبعدما أصبحت المقاومة والمحور الذي تنتمي إليه أكثر قوة، وأشدّ عودًا، يريد الأميركي الاستفراد بلبنان ومقاومته، متناسيًا موازين القوى التي شهدت تغيّرًا واضحًا، ابتداءً من نتائج حرب تموز 2006، مرورًا بحربي سوريا واليمن، وقبلها، بالانتصار الساحق عليه وإخراجه بهزيمة واضحة في كل من أفغانستان والعراق. كل ذلك يشير إلى أنّ تسييل ما أقدم عليه الأميركيون منذ العام 11/9/2001 فشل فشلًا ذريعًا...
النقاط العشر في مقاربة المصالح الأميركية في لبنان
إذا أردنا الدخول إلى العقل الأميركي -البراغماتي عادة-، وأردنا تحليل المكتسبات والخسائر في مقاربة الوضع الحالي اللبناني بعد السابع عشر من تشرين الماضي، وهل أنّ الضغوط القصوى التي يمارسها الأميركي على محور المقاومة، والتي قد تؤدي إلى انهيار الوضع الاقتصادي والذي من المحتمل أن يؤدي إلى انهيار أمني في لبنان، سيكون لذلك تداعيات خطيرة على الأطراف جميعها. سنورد في ما يلي أسبابًا عشرة قد تدفع الاميركي إلى التفكير كثيرًا قبل اتخاذ قرار بالضغط على لبنان وصولًا إلى الانهيار. ومن المفيد الذكر أيضًا أنّ الإدارة الأميركية اليوم ليست على قلب رجل واحد في مقاربة الملف اللبناني، حيث ينقسم الاميركيون إلى جناحين، أحدهما يدفع نحو الانهيار، ويقوده صهر الرئيس جاريد كوشنير ووزير الخارجية مايك بومبيو، وديفيد شينكر وديفيد هيل وغيرهم، وآخر أقل تطرفًا عبّر عنه السفير السابق جيفري فليتمان في شهادته امام الكونغرس، وحذّر من مغبة الوصول إلى انهيار مالي او سياسي في لبنان، خشية أن توفّر الفوضى والحرب الأهلية المزيد من الفرص لإيران وروسيا وسوريا للتدخل في لبنان. ولبنان اليوم، موجود على فيلق الزلازل والتحولات السريعة المتأثرة بالكباش الدولي الإقليمي الحاصل، فما هي هذه النقاط؟.
أولًا: يشكّل النازحون السوريون في لبنان، ويقدّر عددهم بأكثر من مليون ونصف المليون نازح،عاملًا ضاغطًا على لبنان، وفي الوقت نفسه تهديدًا للمصالح الأوروبية والغربية، إضافة إلى السوريين المقيمين في سوريا، ممن يريدون الهجرة إلى اوروبا، إضافة إلى بعض العرب الذين قد يجدون في لبنان منطلقًا للهجرة عبر البحر المتوسط.
ثانيًا: المواطنون اللبنانيون الذين لن يجدوا مفرًا إلا الهجرة إلى أوروبا ايضًا، ولن تكون أعدادهم من المسييحين قليلة...
رابعًا:خلق بؤر وبيئات حاضنة للحركات التكفيرية الراديكالية، داعش والنصرة وأخواتهما في المناطق النائية والمحرومة والفقيرة، ولا سيما في شمال لبنان.
خامسًا: أمن قوات الطوارئ الدولية، واستدامة وجودها وحرية حركتها في ظل انهيار أمني واسع.
سادسًا:الحضور الروسي والصيني والإيراني عبر تعبئة الفراغ الذي سيتركه الأميركي والأوروبي. وهذا ما حذّر منه جيفري فيلتمان في الكونغرس.
سابعًا: المصالح الأميركية، وتتوزع على ثلاثة محاور: سياسي واقتصادي وأمني عسكري، في الشق الاقتصادي، سيخسر الأميركيون حصتهم في الغاز والنفط اللبناني لصالح الصيني والروسي، وسيكون اللبنانيون أمام استحقاق تغيير السلوك الاقتصادي منذ تأسيس الكيان اللبناني في الاعتماد الأحادي على الغرب، وسيحضر تنويع الخيارات الاقتصادية أحد معالم المتغيّر القادم، وسيكون التوجه نحو الشرق خيارًا واقعيًا ومفيدًا للبنانيين. وفي الشق السياسي سيخسر الأميركيون القرار في المؤسسات المؤثّرة والفاعلة والأساسية في بنية الدولة العميقة اللبنانية: حاكمية مصرف لبنان، منظومة المصارف، وغيرها من المؤسسات الحساسة التي تنسّق مع الأميركيين في كل صغيرة وكبيرة، ولامصلحة في ذكرها جميعًا الآن، إضافة إلى كارتيلات النفط والغاز والوكالات الحصرية، وغيرها، ما سيجعل الحسابات الأميركية من دون رصيد.
اما أمنيًا فسنكتفي بشاهدين: الأول هو خسارة القاعدة التجسسية الأمنية في عوكر ودورها المثير، وهي الأكبر في الشرق الأوسط، وهي تنفلش على مساحة مئة وأربعة وسبعين ألف متر مربع، إضافة إلى بعض المواقع الأقل مساحة وتأثيرًا، من دون أن ننسى حرية حركة الطائرات العسكرية العملاقة وطائرات الشحن التي تحط بحرية كاملة في مطار بيروت الدولي، من دون إعاقة، أو أي سؤال، عمّا تحمله وتنقله في جوفها. والثاني هو خسارة جزء وازن من الضفة الشرقية للبحر المتوسط في لبنان لصالح الخصوم والأعداء والمنافسين.
ثامنًا: العامل الأهم هو أمن "إسرائيل" وانفلات الحدود اللبنانية الفلسطينية،تماشيًا مع أي انفلات أمني على مستوى الوطن.
تاسعًا: انفلات الحدود البرية بين سوريا ولبنان بشكل كبير، وما يرتبه ذلك على المستويات الأمنية والاقتصادية وعلى أمن إسرائيل بطبيعة الحال.
عاشرًا: سيؤدي الانهيار إلى الوصول إلى عقد اجتماعي جديد، أو مؤتمر تأسيسي، عوضًا عن اتفاق الطائف الذي أثبت فشله الذريع على المستوى السياسي، وعلى صعيد الرؤية الاقتصادية لرؤساء الحكومات المنبهرين بالنظام الرأسمالي الليبرالي. وسيكون الاتفاق الجديد بين اللبنانيين مبنيًا على أسس جديدة، تتكئ بطبيعة الحال على عاملين مهمين: العامل الديمغرافي، والأوزان السياسية، وفي كلا العاملين ستكون الخسارة للأميركيين والأوروبيين مدوية وصارخة، وسيخسرون ورقة مهمة من الأوراق التي ما زالوا يمسكون بها في صراعهم المكتوم، إلى اليوم مع المحور الأوراسي، التنين الصيني والدب الروسي، وحائك السجاد الإيراني الماهر.
خاتمة
ليس اللبنانيون هنودًا حمرًا، وليس الأميركيون اليوم في أوج قوتهم، وليسوا ممثلين مطيعين أمام كاميرا المخرج الأميركي المبدع.
فهل يتحمّل الأميركي ومن خلفه الإسرائيلي والأوروبي هذه النتيجة؟ هذا متروك لرأي القارئ ونباهته وذكائه.