الإرباك اللبناني متواصل. وقد رفع من منسوبه استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من الترشيح بعد أن تبيَّن له أن التلاقي بين التيار العوني والقوات اللبنانية على حجب التصويت له كان يعني وضع الميثاقية المسيحية في وجهه. وهو أمر لا يريده. والواضح أنّ الحسابات الطوائفيّة بدأت تأخذ حيّزا واسعا في التعامل مع الموضوع الحكومي، خصوصا بعد سقوط خيار الحريري، الذي كان إلى حد ما يشكل تقاطعا مقبولا بين الشرعية السياسية التي يمثلها البرلمان، والشرعية الشعبية التي يمثلها الحراك الشعبي. وشئنا أم أبينا المشهد يتجه إلى المزيد من التعقيد بحكم ابتعاد التسوية السياسية الممكنة عن المشهد، وبحكم الخلافات السياسية المستعرة داخل أهل الحكم، وبحكم محاولات القبض الخارجي أو الداخلي على الحراك الشعبي، ومحاولات اختراقه وتكريس معادلة قائمة على شيطنة السلطة السياسية المتهمة بالفساد، وشيطنة الحراك الشعبي بحرفه عن أهدافه الأساسية والسامية، المطالبة بالعدالة والدولة المدنية ومواجهة الفساد.
واقع الأمر،لا زالتالأنظار مشدودة على الحراك الشعبي الذي نشهده، وهو حراك أساسه عفوي يعبّر عن وجع الناس وفقا لتوصيف المشاركين به. وهو وجع ناجم عن نظام المحاصصة الطوائفية، وعن التدميرالممنهج للطبقة الوسطى، والإفقار المتواصل للفقراء، والفساد المستشري وغياب السياسات الإصلاحية.
وقد علَّـمنا الحراك الشعبي أن صوت الشعب هو الصوت الحقيقي الذي ينبغي على السلطة أن تسمعه وتأخذ به. وهذا أمر تجاهلته لفترة طويلة. علَّـمنا أن كل الأسس التي يرتكز إليها نظام المحاصصة قد هزه هذا الحراك الشعبي. لقد هز هذا الحراك النظام الطائفي والمحاصصة الطوائفية. وأسقط ثلاث نظريات أنتجها النظام الطائفي تباعا وهي نظرية الديموقراطية الطوائفية، والتي تعني في العمق التوافق الطائفي على المحاصصة، وهي لا تمت بصلة إلى الديمقراطية الفعلية. ونظرية الميثاقية الطوائفية، والتي تعني تمثيل الأقوى في الطائفة، مع ما يعنيه ذلك من تهميش للطوائف الصغيرة والأرمن، وإرساء سقوف متعددة للمواطنة والصراعات داخل الطائفة الواحدة. والنظرية الثالثة، هي إسقاط الخطوط الحمر للحمايات الطوائفية للفساد. كما أن الحراك الشعبي أصاب العلاقة القائمة على النفاق السياسي بين أطراف السلطة. فهذه العلاقة أثبتت أن كثرة الإتفاق نفاق، وكثرة الخلاف شقاق. أيا يكن الأمر ثمة سؤال أساسي طرحه هذا الحراك وهو ماذا يريد المواطن من السلطة السياسية ومن الحراك الشعبي.
هذا السؤال حاولنا في اللقاء التشاوري للمحافظات الذي أنتمي إليه قبل أسبوعين الجواب عليه في لقاء في نقابة الصحافة. وخلصنا إلى الأمور الآتية:
- تعزيز فكرة الدولة المدنية الجامعة والقادرة والعادلة.
- المواطنة على أساس أننا مواطنون في وطن لا مواطنين في طوائف.
- رفض الفتنة المذهبية وإدانتها.
- سحب سياسات التحدي في العلاقات بين الطوائف وحلّ أيّ خلاف بالحوار وبتغليب المشترك.
- تفعيل مؤسسات الدولة وتحريرها من الوصايات السياسية والطوائفية.
- الجيش والمؤسسات الأمنيّة ضمانة وحدة البلد والسيادة.
- اسرائيل عدوّ مشترك لكل اللبنانيين. وتغليب التعارضات المحليّة يصرف الصراع معها عن مساره الصحيح.
- تمثيل المرأة وإعطاؤها حقوقها على مستوى القرار في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
- ضرورة اعتماد الدولة رؤية لدور الشباب ومستقبلهم وتوفير فرص العمل لهم ومشاركتهم في القرار.
- إبعاد الثروة النفطيّة عن المحاصصات الطوائفيّة والمذهبيّة والمحسوبيات السّياسية وتوظيفها لخدمة مستقبل الأجيال القادمة.
- ضريبة تصاعديّة لتوفير حدّ أدنى من العدالة الإجتماعية وتأمين الحاجات الأساسية من ماء وكهرباء وتعليم وغيرها.
- ضمان صحي واجتماعي وضمان الشيخوخة، عبر تحويل جزء من أرباح المصارف والعقارات والأملاك البحرية.
- إحياء الطبقة الوسطى ضمانة للتوازن الإجتماعي والحد من الطوائفية.
- خطاب إعلامي هادئ وبنّاء.
- ضمان الامن البيئي والصحي.
- قانون انتخابات نسبي يعتمد لبنان دائرة انتخابية واحدة على قاعدة الغاء القيد الطائفي.
- تسريع تشكيل الحكومة، على أن يكون الحراك الشعبي شريكا وأداة رقابة ومحاسبة.
- المطالبة باللامركزيّة السياسية والإداريّة.
- إعطاء المرأة المتزوجة من أجنبي حق الجنسية لأبنائها.
بعد هذه الصورة إلى أين يمضي الوضع والواقع السياسي في البلد؟ الجواب على هذا السؤال يرتبط بعناصر مختلفة ومتشابكة منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي. فما البعد الدولي للحظة اللبنانية الراهنة؟ المقاربة هي:
ينبغي التمييز بين ثلاثة مواقف: الفرنسي مع الإستقرار والحرص على تسوية داخلية، وتوافق سواء على حكومة تكنوسياسية أو حكومة تكنوقراط يتمثل بها الجميع، وتستبعد التعرض لمواضيع تنجب خلافات سياسية.
الموقف الأميركي نظريا مع الإستقرار ولكن يقارب المسألة من زاوية ربطه مع التطورات والمتغيرات في المنطقة. ما يعني أنه يريد حالة ستاتيكو قد تطول أو تقصر. وهو موقف في أهدافه الأساسية خلق أزمة في علاقة حزب الله بمكونات المجتمع اللبناني وبالمكوّن الشيعي تحديدا. وهو يُدرك أن أي تدخل أميركي علني ومباشر قد يُحرج حلفاءه في الداخل. ولذلك يؤثر سياسة الإيحاء ويربط معالجة الوضع المالي والإقتصادي بمدى الإستجابة لسياسات الإيحاء هذه التي منها خصخصة قطاعي الكهرباء والتلفون، وكذلك ترسيم الحدود البحرية وعلاقتها باستثمار النفظ والغاز. أما بريطانيا فهي تساند من بعيد الموقف الأميركي. كذلك فإن هولندا هي الوسيط في سياسات الإيحاء الأميركية.
الموقف الروسي ليس ضد الحراك الشعبي ومع توافق داخلي لبناني وتشكيل حكومة، إنما يتخوف من النوايا الأميركية ومن احتمال توظيف واشنطن للحراك في حسابات مصالحها في المنطقة. كما يخشى من تطورات تعيد نشاط التنظيمات الدينية المتطرفة إلى المسرح اللبناني ومنها داعش.
في البعد الداخلي، لغة الحوار بين السلطة السياسية والحراك الشعبي معدومة وهي لغة الطرشان. حتى أنه لا حوار حقيقي بين أطراف السلطة نفسها. وهذا مؤشر يفتح الباب على الإنهيار الكامل والفوضى، وعلى احتمالات تدهور الوضع الأمني وتفاقم المشكلة الإقتصاديّة والسياسية، والمزيد من التحكّم الخارجي بالوضع اللبناني لجهة فرض وقائع جديدة من نوع إعادة النظر بالخريطة السياسية وتقسيم البلد وإحياء الكانتونات الطائفية. وفي مثل هذه الحال الذي يتحمّل المسؤولية بشكل أساسي هو السلطة السياسية، واستتباعا الحراك الشعبي لأنّه لا يعود من المفيد تحميل المسؤولية إلى هذا الطرف أو ذاك طالما الهيكل ينهار على الجميع.
إذن المطلوب تنازلات متبادلة بين السلطة السياسية والحراك الشعبي وقبل ذلك تنازلات مشابهة بين فرقاء السلطة أنفسهم.
شئنا أم أبينا هناك شرعيتان حاليا، الشرعيّة الشعبيّة للحراك، وشرعية البرلمان، المتمثلة بنواب منتخبين إلى أن تجري انتخابات جديدة... ولذلك خطوة تعطيل الشرعية البرلمانيّة هي خطوة في المجهول.
المخرج الممكن يفترض التوفيق بين هاتين الشرعيتين. وبين الخارج والداخل بعد تراجع العامل الداخلي. فهل يشكّل اسم الدكتور حسان دياب مثل هذا التقاطع؟ وهل يستجيب ذلك لمعادلة الميثاقيّة السنّية فتصبح فرصة التأليف للحكومة ممكنة؟ الأمر مرهون بردود فعل الطائفة السنّية والحراك الشعبي.
ما المطلوب إعلاميا
تبيّن أن الإعلام من خلال ظاهرة الحراك الشعبي أنه السلطة الأولى في هذه اللحظة في البلد. وأختصر توصيف الحالة الإعلاميّة بين ظاهرتين: ظاهرة المعلومة الصحيحة والدقيقة والموضوعيّة، وظاهرة الإشاعة واللغط. ولذا فإنّ المطلوب إعلاميّا وفي ظلّ إمكانيّة أن يقع البلد في الفوضى والإنهيار، أن تكون الوظيفة الفعليّة للإعلام هي وظيفة البناء والتوجيه نحو خطاب عاقل وهادئ وجامع وتبريد الرؤوس الحامية.
المخرج ما زال ممكنا وكذلك الإنهيار والفوضى.