يُدرك من يرصد تصرّف رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري أنه يمر في مرحلة إرباك حقيقية، لا أحد يعرف مسارها ولا مصيرها. ليس سهلاً عليه أن يتفرّج على عملية خروجه من السلطة راجلاً بعد إتخاذ موقف الإستقالة من الحكومة. كان يظنّ الحريري أنه سيتربّع على عرش الحراك الشعبي، لكن حسابات حقل "الشيخ سعد" لم تنسجم مع حسابات بيدر المحتجّين، ولا بيادر القوى السياسية في بلد تحكمه الطوائف.
تمسّك "الثنائي الشيعي" بالحريري لرئاسة الحكومة، ونجح الأخير في حرق أوراق كل المرشحين الطامحين بالوصول الى السراي الحكومي. لكن مواقف "القوات" والتيار "الوطني الحر" حرمت الحريري من العودة الى السراي على صهوة جواد الإجماع الطوائفي اللبناني. وعندما حلّ إسم رئيس الحكومة المكلّف حسّان دياب، علم الحريري أنّ مرحلة سياسية جديدة داهمت واقع اللعبة السياسية اللبنانية، بعدما إنسجمت مواصفات دياب مع معايير الحراك الشعبي، إلى حدّ شبّهت فيه شخصيات سياسية الرئيس المكلف تأليف الحكومة الآن، برئيس الحكومة الأسبق سليم الحص، الذي كان وصل الى رئاسة مجلس الوزراء كشخصيّة مستقلّة منفردة، وفرض نفسه في موقع قيادة الحكومة في مرّات عديدة، وصار جزءاً اساسياً من المعادلة السّياسية والنيابيّة في بيروت، ويحظى بتمثيل شعبي وازن.
مما يعني أن دخول دياب الى السلطة من باب رئاسة الحكومة بعدما كان تولى سابقا وزارة التربية الوطنية في حكومة نجيب ميقاتي، هو دخول واسع الى الحياة السياسية اللبنانية للتمرّكز في العاصمة التي تصنع زعماء بعد تولي مهمة رئاسة مجلس الوزراء.
هنا يكمن التحدّي في حسابات بيت الوسط، خصوصاً في غياب الدعم العربي وتخلّي الدول الخليجيّة عن الحريري، كما ثبّت موقف "القوات" في الإستشارات النيابية برفضهم "الشيخ سعد" رئيساً للحكومة. وهو تحوّل جوهري غير عادي، يغيّر في الحسابات السّياسية الموجودة منذ عام 2005. فهل يتفرّج الحريري على كل تلك العوامل من دون أيّ ردة فعل؟ قد يكون مناصرو "المستقبل" يسعون الى فرض زعيمهم مجددا في السلطة، وقد يكون تصرفهم في الشارع بقطعهم للطرق من دون توجيه بيت الوسط، رغم إستفادة الحريري من كل تلك التصرّفات، للتأكيد على أنّه رقم صعب في المعادلة اللبنانيّة، مستغلاً حالة الهلع التي تسود في الشارع السنّي. لكن الوقائع تفيد أن "الشيخ سعد" سيكون مضطراً للتعامل مع واقع مغاير. أولا، لم يعد وحده الممثل للسنّة، بعد دخول لاعبين آخرين وصلوا بأصوات الناخبين الى البرلمان: النواب عبدالرحيم مراد في البقاع، نجيب ميقاتي وفيصل كرامي في طرابلس، جهاد الصمد في الضنّية، أسامة سعد في صيدا، وفؤاد مخزومي في بيروت. جميعهم حلّوا بنسب عالية من الأصوات، وصار مخزومي البيروتي على طريق السراي ايضا، في أيّ مرحلة، بعدما بات اسمه مطروحاً لتولي رئاسة الوزراء مسنودا بتمثيل شعبي بيروتي يُقلق "المستقبل". مما يعني غنى التمثيل السني بزعامات سياسية تمنع التفرّد. ليأتي دياب حالياً الى السلطة التنفيذيّة يدخل نادي رؤساء الحكومات، ويفرض نفسه شخصيّة جديدة.
ثانياً، يُدرك الحريري أن متغيّرات إقليميّة آتية توحي بوجوب إجراء قراءة نقديّة، فلا ينفع ترك الشارع لغرائز مذهبيّة. كما هو حاصل الآن في الشمال، البقاع الأوسط وبيروت، من خلال رفع شعارات طائفيّة ومذهبيّة خطيرة جدا، بالتزامن مع قطع الطرق في تلك المناطق. لأنّ ترك الشارع في هذا المسار سيقوّي تيارات متطرّفة، لن يكون للحريري دور ولا مكان فيها.
ثالثاً، تعرف القوى أنّ أبرز تحدٍ أمام الحكومة العتيدة هو الملف الإقتصادي، بعد تراكم الأزمات الاجتماعية والمعيشية. فلن ينحصر نجاح الحكومة بها من دون غيرها. لأنّ أيّ فشل سينعكس على كل الأحزاب السّياسية لتحمّلها المسؤوليّة المباشرة، على قاعدة أنّ الأزمة سياسية وعلاجها سياسي.
لا يمكن أن تتحمل الحكومة العتيدة وحدها نتائج أيّ فشل. كما الحال في مقاربة الوضع المالي، فمن غير المعقول ان تُرمى الكرة في ملعب الجسم المصرفي، لأنّ أساس الأزمة هو فشل سياسي في وصف وتطبيق العلاج. كانت الدولة تستدين من المصارف كي تسدّ العجز المالي، فلبّت المصارف طلبات الدولة، لكن حين تظهّرت الأزمة، أصيب المواطنون بالهلع الطبيعي، وسحبوا اموالا باهظة من البنوك، وعندما حاولت المصارف ان تحدّ من الانهيار بفرملة اندفاعة المودعين، حصل هجوم على الجسم المصرفي في لبنان، كأنّه هو يتحمل مسؤوليّة أزمة الدولة. بينما يقتضي الواقع سؤال الحكومات: ماذا فعلتم؟ لماذا إستدنتم؟ أين خططكم؟.
الكل يعوّل على خطّة الحكومة العتيدة لإنجاح خطة ماليّة، تُبعد الكأس المرّة التي يتجرعها الجسم المصرفي والمواطن معاً. لأن الإثنين معاً هما ضحية السياسات الحكومية التي إتّبعت منذ عقود.
المطلوب هو الحلّ. والنجاح يحتاج إلى تضافر الجهود السياسية والشعبية والمصرفية في عمل جبّار متكامل الأوصاف، يبدأ بالرؤية الوطنيّة ويمرّ بفرض الثقة المفقودة حالياً، ويصل الى تطبيق سريع بعد تحوّل الحكومة الى خليّة لإدارة الأزمة. لا حلّ بوجود التأزيم، والهلع، والسلبيّة. لا حلّ الاّ بالإستنفار الوطني والتحلّي بالمسؤولية. فهل نبدأ ونجنّب انفسنا مزيداً من الهلع السياسي والمالي؟.