بات من الواضح أنّ الجميع في الداخل والخارج بانتظار تشكيل الحكومة الجديدة من قبل الرئيس المكلف تأليفها الدكتور حسان دياب، لمعرفة هويتها وبرنامجها الإصلاحي الذي يحدّد ما إذا كانت ستختار نهجاً إصلاحياً يلبّي شروط الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، أم ستعتمد نهج الإصلاح الوطني المستقلّ الذي يرفض شروط الدول الغربية وأدواتها المالية الممثلة بصندوق النقد والبنك الدوليين… من دون شك سيكون لكلّ خيار معارضيه ومؤيديه، كما سيكون له انعكاسات إيجابية او سلبية على واقع الأزمات التي يعاني منها لبنان واللبنانيون…
من المعروف انّ الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة لها ربطت تأييدها ودعمها لحكومة دياب التي ستشكل بأن تكون من الاختصاصيين وأن تعتمد إصلاحات اقتصادية ومالية وفق وصفات مؤتمر سيدر وصندوق النقد والبنك الدوليين، وهي إصلاحات تدعو إلى خصخصة ما تبقى من قطاعات خدمية في لبنان تدرّ عائدات هامة على الخزينة وأهمّها شركتا الهاتف الخليوي، والهاتف الثابت، والموانئ البحرية والمطار والكهرباء إلخ… وكذلك خفض عدد الموظفين في مؤسّسات الدولة وفرض ضرائب جديدة غير مباشر، وذلك بهدف خفض العجز المتزايد في الموازنة العامة… اذا كان ليس هناك من خلاف على ضرورة ان تكون الحكومة من الاختصاصيين، إلا أنّ تبنّي الإصلاحات وفق هذه الشروط سوف يقود إلى احتواء الأزمة لوقت قصير، لكنها ستؤدّي بعد ذلك الى تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، فالدين سوف يزداد نتيجة القروض التي ستحصل عليها الحكومة من «سيدر» والفوائد سوف ترتفع، مما يزيد من العجز عند استحقاقها، وهو ما يجعل لبنان أكثر ارتهاناً وتبعية للدول الغربية المانحة… فيما الدولة تكون قد استنفذت المبالغ التي حصلت عليها من خصخصة القطاعات الخدماتية وفقدت في الوقت عينه العائدات التي كانت تحصل عليها منها قبل خصخصتها مما سيقود إلى عودة العجز في الموازنة إلى الازدياد من جديد وعلى نحو أكبر مما كان عليه.. أما على المستوى الاجتماعي فإنّ الأزمة مرشحة أيضاً للتفاقم بفعل ارتفاع الأسعار وكلف المعيشة نتيجة زيادة الضرائب غير المباشرة، وارتفاع نسبة البطالة بسبب الاستمرار في السياسات الريعية التي تتناسب وشروط صندوق النقد والبنك الدوليين ومؤتمر «سيدر»…
في المقابل فإنّ اعتماد الحكومة المقبلة الإصلاحات الوطنية التي ترفض هذه الشروط، وتعمل على وضع حدّ للسياسات الريعية المسبّبة للأزمات التي فجرت الانتفاضة الشعبية في الشارع، لمصلحة سياسات تنموية إنتاجية، وتنويع خيارات لبنان الاقتصادية في علاقاته الخارجية لا سيما نحو دول الشرق الناهضة اقتصاديا، والانفتاح على سورية لتصريف الانتاج الزراعي والصناعي الي الدول العربية وخصوصاً السوق العراقية، وجلب الاستثمارات غير المشروطة وقبول المساعدات السخية من الصين وروسيا وإيران لحلّ الأزمات الخدماتية لا سيما الكهرباء والنفايات والمواصلات، والتي جرى رفض قبولها من قبل الحكومات السابقة نزولاً عند الإملاءات الأميركية.. وكذلك العمل على إحداث إصلاح شامل على مستوى القانون الضريبي بحيث تعتمد نظام الضريبة التصاعدية التي تحمّل أصحاب الثروات والمصارف العبء الضريبي الأكبر إلى جانب إشراكها في تحمّل معالجة عبء الدين العام من خلال حسم الجزء الأكبر من هذا الدين، انطلاقاً من مبدأ التضامن المجتمعي في مواجهة الأزمات وإعادة توزيع الثروة على نحو يحدّ من الهوة السحيقة في التفاوت الاجتماعي… وتوجيه الضريبة بحيث تخفض على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، وترفع على الاستثمار في القطاعات الريعية، هذا الى جانب إقرار سريع لقوانين محاربة الفساد واسترداد أموال وامتلاك وحقوق الدولة المنهوبة..
إنّ اعتماد مثل هذا النهج الاقتصادي والإصلاحات المالية والضريبة إلى جانب البدء بورشة استرداد الأموال وحقوق الدولة المنهوبة، يمكن الدولة من الحفاظ على ملكيتها للقطاعات الخدماتية وعائداتها الهامة، ويدرّ على الخزينة عائدات كبيرة تفوق تلك التي ستحصل عليها من خلال اعتماد إصلاحات «سيدر» والمؤسسات المالية الغربية المشروطة، والتي تحمل معها ذلّ التبعية ورهن البلاد لقوى الاستعمار التي تسعى من خلال ذلك الى فرض شروطها السياسية التي تستهدف تطويق وإضعاف المقاومة وصولاً إلى نزع سلاحها خدمة لكيان الاحتلال الصهيوني الذي يعاني من تآكل قوته الردعية نتيجة تنامي قوة المقاومة كمّاً ونوعاً.. كما أنّ هذا النهج الإصلاحي الوطني يجنّب لبنان الخضوع للضغط الأميركي الهادف إلى فرض اتفاق لترسيم الحدود البحرية والبرية (يمكن كيان العدو الصهيوني من الاستيلاء على جزء هام من ثروات لبنان النفطية والغازية والمائية)، ويجعل لبنان قادرا على حماية هذه الثروات بالاستناد إلىَ قوة الردع التي تفرضها المقاومة، وبالتالي استغلال النهوض بالاقتصاد الوطني وإخراج لبنان واللبنانيين من أزماتهم المالية بما يحقق الاستقلال الاقتصادي وتحصين الاستقلال السياسي.. وبالتالي التحرّر من الوصاية الأميركية الغربية..لا شك أنّ الفرصة متاحة أمام الحكومة المقبلة لإخراج لبنان من أزماته عبر سلوك نهج الإصلاح الوطني المستقلّ والنهوض بالإنتاج الوطني، وبالتالي تلبية مطالب اللبنانيين الذين نزلوا إلى الساحات من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية والحصول على حقوقهم الإنسانية والعيش بكرامة في بلدهم بدلاً من البحث عن الهجرة الى الخارج… لكن سلوك مثل هذا النهج الإصلاحي الوطني يتطلب وزراء مختصّين يؤمنون به، الأمر الذي يستدعي ان يقترن انتقاء مثل هؤلاء الوزراء على أساس هذا الخيار.. ولذلك على رئيس الحكومة المكلف حسان دياب ان يقرّر من الآن ايّ نهج اقتصادي وايّ نوع من الإصلاح سيختار، اقتصاد تنموي مع إصلاح وطني مستقلّ، أو الاستمرار في النهج الاقتصادي الريعي مع إصلاح بشروط الدول الغربية وصناديقها المالية التي تستخدم القروض وسيلة لإخضاع الدول وأحكام الهيمنة عليها…؟