بِعنَاها! بِعنَا كنائسنا وما فيها وَوَزَّعنا أموالَها على الفقراء! بِعنا مؤّسَساتنا كلّها: الجامعات والمدارس والمُستشفيات والمُستوصفات ومآوي العجزة ودُور الأيتام... وَوَزَّعنا أموالها على الفقراء. بِعنا أراضي الكنيسة وأديارها كلّها وصرفنا الكهنة والرّهبان والرّاهبات إلى بيوتهم بحجّة إطعام الفقراء... وماذا بَعد؟ قولوا لنا ماذا تُريدون منّا أن نبيع، لأنّنا سنفعل وسنوزّع أموال ما نبيعه على الفقراء؟ وإن كنتم تَرَون بأنَّ كنائسنا تُفقِر النّاس، وأننا إن بعناها حللنا مُشكلة الفقر في العالم وما يرتبط بها من أزمات تطال الإنسان في إنسانيّته وكرامته، فسوف نفعلها. سنبيع كلّ شيء بفرح كرمى للإنسان، لأنّ الإنسان في منظورنا هو أسمى من كلّ شيء.
ولكن هل تُصدّقون بأنَّ مؤسّسات الكنيسة هي العائق دون شبع الفقراء وإحقاق العدالة الإجتماعيّة؟ الحمقى فقط يُصدِّقون ذلك ويتبنّون منطقاً كهذا! فالذين يَغارونَ غيرةً على الفقراء عليهم أن يوجّهوا أنظارهم إلى مُسبّبي الفقر في العالم، وما يُرافقه من جور وظُلم ولا عدالة وجوع وعطشٍ واحتقارٍ واستعبادٍ وإساءةٍ إلى الكرامات: فإن كانت تعنيكم حقّاً قضيّة الفقراء، وإن كان لديكم الجرأة على المواجهة، فإذهبوا وقولوا لمسببي الفقر في العالم بأن يبيعوا يُخوتهم الفاحشة ويتخلّوا عن حفلات المجون فيها، ويبيعوا سيّاراتهم الفاخرة ويتصدّقوا بِها على الفقراء. وإن كنتم غيارى بهذا المِقدار على مصلَحةِ الفقراء، فإذهبوا وقولوا لفاحشي الغِنى بأن يبيعوا قصورهم وفِللهم ومنازلهم الفخمة ويتصدّقوا بها على الفقراء. وإن كان يُقلِقكم أنّ الفقراء من دون سقف ومن دون مأوى ومن دون سرير ومن دون طعام، فإذهبوا وقولوا لمالكي الأراضي الشّاسعة الواسعة بأن يبيعوا ما يقتنون من أراضٍ أو بالأحرى يُوزّعونها بالتّساوي على الفقراء. وإن كان الفقر يقضّ مضاجعكم ويُزعجُ راحتكم ويمنعكم من النوم الهانئ، فإذهبوا وقولوا لفاحشي الثراء بأن يتخلّوا عن جواهرهم المُخَزَّنة في خزائنهم الفولاذيّة المُحصّنة ويتصدّقوا بِها على الفقراء. وإن كان يُحزنكم عُري الفقراء ويستثير حفيظتكم ويُحرِّك مشاعِرَكم، فإذهبوا وقولوا لمُقتني الملابس الرّاقية بأن يبيعوا ملابسهم وأكسسواراتهم الغالية الثّمن ويُلبِسوا العائلات العريانة. وإن كنتم تشعرون بالإجحاف بحقّ الفقراء، فإذهبوا وقولوا لمَن يكدّسون الأموال بأن يتخلّوا عن الجزء القليل من أموالهم المُكدّسة في المصارِف ويتصدَّقوا بها على الفقراء. وإن كان جوع الفقراء يُوجِعُكم، فاذهبوا وقولوا لأصحاب الشّركات بأن يتوقّفوا عن إتلاف الفائض من المنتوجات الزّراعيّة والغذائيّة التي يُصنّعونها بحجّة الحِفاظ على أسعارها العالميّة. وإن كانت حياة الفقراء قيّمة إلى هذا الحدّ في نظركم، فإذهبوا وقولوا لمُصنّعي وناشري أدوات الموت، بأن يتوقّفوا عن صناعة الأسلِحة. وقولوا لحُكّام الدّوَل بأن يتخلّوا عن سياسة تكديس الأسلحة، وعن السّباق إلى التّسلّح... حثّوهم على أن يستعملوا ما يُنفقونه من أموال طائلة في صناعة الإنسان، لا في صناعة أدوات الحرب واقتناء آلات الموت. فكم هو ثمن دبّابة واحدة؟ نعم دبّابة واحدة، سأل القديس شارل دو فوكو أن يتبرّعوا له بثمنها فيقضي على مرَض البَرَص في العالم؟ كم هو ثمن طائرة حربيّة واحدة؟ كم هو ثمن بارجةٍ حربيّة واحدة؟ كم هو ثمنُ صاروخٍ ذكيّ واحد؟ كم هو ثمنُ صاروخٍ نووي واحد؟ كم هو ثمن رصاصة، رصاصةٍ واحدة؟ كم... وكَم... وكَم... هذا بالتّحديد ما يُسبّب الفقر في العالَم. وما يُسبّب الفقر أيضاً، هو الجشع والطّمع والجوع الذي لا يشبع إلى القِنية، والسّعي إلى السيطرة وإلى إخضاع الشّعوب وإذلالها سياسيّاً واقتصادياً، وصرف الأموال في غير محلّه، والتبذيز والبذخ والفحش والبَطر والتّشاوف والغرور... نعم هذا كلّه يُسبب الفقر ويضرّ بالفقراء وبكراماتهم، لا أملاك الكنيسة ومؤسّساتها التي هي، وعلى الرّغم من الضّعف الذي فيها، أدوات لنشر رحمة الله، ولولاها لتفاقمت مشكلة الفقر في العالم!.
عندما يعرف الإنسان أين هو لُبّ المُشكلة، ويُحَوّل نظره عنه إلى لُبٍّ لا مُشكلة فيه، يُشبه عندها المثل القائل: "يللي ما في عالحمار بيعَضّ الجلال"... والسّلام.