«عاشر من الناس كبار العقول وجانب الجُهّال أهل الفضول
واشرب نقيعَ السُم من عاقلٍ واسكب على الأرض دواء الجَهول»
(من «رباعيات الخيام»، ترجمة أحمد رامي)
لا أريد أن أصوّر مسألة اغتيال قاسم سليماني حدثاً مفصلياً في ما يجري اليوم في المنطقة، فالتاريخ محشو إلى حد الانتفاخ بالأحداث التي يعتقد المرء أنها متى حدثت تصبح نقطة تحوّل كبرى، ليتبين لاحقاً، وبسرعة، أنها مجرد نقطة في مسار يصبح اسمه «تاريخ» فقط. والتاريخ هو كما وصفه «هيرودوتس»، مجرد شاهد حيادي على ما يحدث، لا يتدخل ولا يتأثر، بل يكتب ما يراه، عسى البشر يتعلمون من تجارب بعضهم! لكن التاريخ نفسه يستنتج في كل محطة جديدة أنّ البشر، وإن ظنوا أنهم تعلموا، لكنهم في كل مرة يعيدون تجارب فاشلة بكل تفاصيلها، ظنّاً منهم، وبصدق وإيمان، أنهم أكثر فطنة أو إيماناً أو نضوجاً... ممّن سبقهم. لكن المصيبة هي أنه في كل مرة تعود التجربة بفاعليها الجدد، سواء نجحوا أم فشلوا، لكنّ الثمن يدفعه دائماً في الهزيمة أو الظفار، بَشر لم يكونوا أبداً في موقع القرار، إلّا نادراً. مثل ما حدث مع قاسم سليماني هو أنّ أحد أصحاب القرار كان أحد ضحاياه، بعد أن تسبب قراره فيما سبق بالمأساة لملايين من البشر.
هذا مع تفهّمنا لاعتقاد البعض أنّ سليماني كان يخدم قضية «فوق إنسانية إيمانية» ذات طابع كوني مُتسام، هي المعركة المقدسة بين الخير والشر التي فيها خلاص البشرية، لكن الكارثة تقع عندما يعتقد عدو خادم الخير أنه هو من يحمل الخير الحقيقي في مواجهة الآخر، خادم الشر! وعندها هل يصطدم الخير بالخير أم الشر بالشر؟ ومن هو الحَكَم في كل هذا، غير أنّ الضحايا هم أنفسهم للخير وللشر.
لماذا الكلام الآن من هذا الموضوع، وما دخله بما يحدث؟
لأنّ ما يهمنا نحن، في تفاهة وجودنا كأفراد بحسابات حاملي رايات القضايا الكبرى، هو كيف العبور في لحظة هبوب العاصفة بأقل مقدار من الخسائر. المصيبة هي أنّ في تاريخ لبنان على مدى وجوده لم تمر عاصفة من دون آثار قاتلة وكارثية على بشره وحجره! لكنني لا أريد من كل ذلك تبرئة «شعبنا العظيم الفطن والنزق» مما اقترفته أيدينا في مضاعفة خسائرنا مع كل حدث، حتى ذاك الذي يحدث بعيداً عنّا. فقد شرّعنا أبوابنا للرياح من كل حدب وصوب، ووضعنا أنفسنا، ونحن محشورون في بقعة صغيرة من جغرافيا العالم، في خدمة مصالح ومشاريع وأساطير لا يسعها حتى الكون، ظنّاً مناً، لنَزقنا، أننا فاعلون ومؤثرون، وحتى قادة. لكننا في الواقع مجرد نقطة ضائعة في التاريخ والجغرافيا.
مقدمة طويلة، وبصراحة رأيتها مملّة، ولكنني لن أمحوها وسأدخل أخيراً في صلب الموضوع. بالنسبة الى دونالد ترامب، فما يقوم به اليوم حسبما أرى، هو محاولة حثيثة لاستدراج إيران إلى معركة مفتوحة من خلال ما يقوم به اليوم من تكرار لعمليات مؤلمة واستفزازية تجاه المجموعات الملحقة بالحرس الثوري، وآخرها الذي حدث بالنسبة الى سليماني، ولا يبدو إلا أنه محطة ستستتبع بمحطات أخرى. ولكن ما الهدف من كل ذلك؟ فحسابات الرئيس الأميركي، مثله مثل معظم الرؤساء في أميركا، هي داخلية أولاً مرتبطة بالانتخابات المقبلة، وبالأزمة المتعلقة بمحاولات كف يده بخصوص موضوع أوكرانيا.
لذلك فما أراه هو أنه يحاول الذهاب في الضغط على إيران إلى ما بعد الحصار الاقتصادي المضني، إلى مرحلة استدراجها إلى النزاع العسكري المباشر، أي رد ايران بنحو موجع يسقط خلاله قتلى أميركيين، وهذا ما سيعطيه الرخصة لخوض غمار حرب جديدة. بالنتيجة، يكون ترامب قد رفع بذلك احتمال تجديد ولايته، لعلمه أنّ احتمال تغيير الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية ضئيل في حالات الحرب.
أما في حال جنوح إيران إلى العقلانية، وهو أمر مستبعد في ظل العقلية العقائدية الحاكمة فيها، وتشابك المصالح الإيرانية مع الفكر المتشدد في الداخل والخارج، أي إذا فرضنا جدلاً أنّ إيران رضخت لمسألة تعديل الاتفاق النووي، فإنّ ترامب سيضمن بذلك تجديد ولايته على الأرجح من خلال التأكيد أنّ سياسته أدّت إلى جعل أميركا وإسرائيل أكثر أماناً، باتفاق أفضل بكثير مما أتى به الرئيس أوباما.
أما بالنسبة الى الخيارات الإيرانية فهي صعبة ومكلفة جداً، وذلك بغضّ النظر عن القرار، سواء كان حرباً أو سلماً أو حتى ما بين بين! فإن فرضنا عدم الرد، فهذا يعني إصابة جديدة في الهيبة التي بَنتها ثورة الخميني على مدى أربعة عقود، والمعروف عن أنظمة الشمولية السياسية هو أنها تحيا بالهيبة وبالبناء على وهم القوة والمنعة والصمود والقدرة على التحدي. وإن كان الرد مموّهاً وغير ذي ثقل، فإنّ ترامب سيسعى إلى مزيد من الاستفزاز عن طريق عمليات جديدة مؤلمة، وبالتالي فعلى الحرس الثوري الرد بالمِثل، فيدخل في الدوامة التي يسعى إليها ترامب.
أما إذا كان الخيار فتح حرب شاملة، فمع العلم بما ستؤدي اليه من خسائر، فإنّ النتائج ستكون مدمّرة لكل مشروع ولاية الفقيه، على الأقل عسكرياً، إلّا إذا حدثت أعجوبة ماورائية، هي أساساً في صلب قناعات مشروع ولاية الفقيه. وهنا أظن أنّ القيادات المدنية لإيران ليست في انتظار حصول الأعجوبة في الوقت الحالي.
في المحصّلة، فإنّ النتيجة الحتمية لكل الخيارات الإيرانية هي تحجيم النفوذ في أفضل الحالات، مادياً أو معنوياً أو الإثنين معاً، أو السقوط الكامل لمشروع ولاية الفقيه على المستوى الكوني والإقليمي، وبروز نظام جديد في إيران، أقل التصاقاً على الأرجح بعالم الأساطير!
لكن في ظل كل ذلك فما هو حال لبنان؟ الواضح هو أنّ بلدنا سيدفع أثماناً باهظة، كالعادة، في ظل العناد المرضي على عدم الذهاب إلى الحياد، أو ما هو معروف باسم الدلع «النأي بالنفس»، فسواء ركبت الحكومة أو لم تركب، وسواء كانت حكومة مواجهة أو سلام، فإن ما يحتاجه لبنان اليوم هو من يتحَنّن علينا بكتلة نقدية وازنة لوقف التدهور المالي، وهذا ما لا نراه قادماً في المدى المنظور. لكنّ الكارثة الكبرى ستكون في حال انطلق الرد الإيراني من لبنان، أو أصرار «حزب الله» على إلحاق البلد بالمحرقة في سبيل الأسطورة. جلّ ما نتمناه اليوم هو أن يكون البلاء أقل من المتوقع!