لم يعلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حينما أعطى الأمر باغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، أنه ارتكب أكبر خطأ في ولايته الرئاسيّة. لم يعلم ترامب، أن ما قام به أعاد إحياء مبادئ الثورة الإسلاميّة في ايران، وأعاد صيحات "الموت لأميركا" في حناجر الإيرانيين وكل المحور المناهض للسياسات الأميركيّة في المنطقة.
هو جهل بطبيعة المنطقة، وشعبها والثقافة الموجودة هنا، وهذا الأمر ليس جديداً على السياسة الأميركية في فهمها الخاطئ. وباعتراف هنري كسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق حيث تعتبر كتاباته ثوابت ثقافة السياسة الخارجيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط، فإن أميركا تجهل مفاهيم جذريّة على المستويين الثقافي والاجتماعي لشعوب المنطقة.
إلا أن ما هو الضروري معرفته اليوم، أن الصراع بين أميركا وإيران، ليس صراعاً بين ترامب والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية في ايران السيد علي خامنئي، أو بين محور مناهض لأميركا وآخر موالٍ لها. إن الصراع بين إيران وأميركا متجذّر في أذهان الإيرانيين منذ ما قبل ولاية الفقيه وما قبل المقاومة وحتى ما قبل اسرائيل. وبالتالي فإنّ ما قام به ترامب، أعاد احياء الروح الثوريّة داخل الشعب الإيراني.
أميركا وثورة مصدّق
تاريخياً، ولحصر الموضوع في ما بعد الحرب العالميّة الثانية والتي انتصرت فيها دول الحلفاء، انقسم العالم إلى محورين، الأول تابع لأميركا والثاني للاتحاد السوفياتي السابق. وبعد أن أقدم البريطانيون على عزل الشاه رضا بهلوي والاتيان بنجله الشاه محمد رضا بهلوي في عام 1941، بدأ العمل على أن تكون ايران "شرطي أميركا في الشرق الأوسط" كما عرف المصطلح حينها. يومها عملت الولايات المتّحدة على تعزيز الروابط المصلحيّة بين تركيا والعراق وايران وباكستان.
أولى الخضات في العلاقة بين طهران وواشنطن كان في العام 1953 حين قرر رئيس الحكومة حينها محمد مصدق تأميم الثروة النفطيّة في ايران، من خلال الخطّة الأميركية-البريطانية في القضاء على هذا القرار والاطاحة بمصدق(1). وهذا الموضوع أثّر سلباً على العقل الجماعي للشعب الإيراني تجاه أميركا واعتبرها حجر عثرة في مسيرة تقدمه بلادهم والدرع الحامي لنظام الشاه الذي عاد لحكم ايران بعدما كان هارباً بسبب ثورة مصدّق التي لم تبق طويلاً.
وفي تصريح عام 2000، اعتبرت وزيرة الخارجية الأميركية وقتها مادلين أولبرايت، خلال حديثها عن دور اميركا في الانقلاب ضد مصدق، أنه "من السهل إدراك سبب استمرار كراهيّة أغلبيّة الإيرانيين لتدخّل أميركا في شؤون بلادهم الداخليّة".
اقتحام السفارة الأميركية
بعد الإحباط الذي عاشه الإيرانيون بعد فشل ثورة مصدّق، وتمتّن العلاقة النفعيّة بين الشاه والادارات الأميركيّة المتعاقبة، ما اعتبره الإيرانيون نهبا لخيرات بلادهم وتدخلا في شؤونها الداخلية. ظهرت جلياً هذه الخلفية السلبية تجاه الولايات المتّحدة بعد الاطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979 ونجاح الثورة الإسلامية بقيادة السيد روح الله الخميني، فكانت السفارة الأميركية في طهران الهدف الأساسي لمجموعة من الطلاّب المشاركين في الثورة، فاقتحموها وأسروا الأميركيين الموجودين فيها. ومن يومها انطلق الشعار الذي لا يزال يرفع حتى اليوم "أميركا الشيطان الأكبر".
بعد هذه الحقبة، اخذت الإدارة الأميركية على عاتقها احتجاز الأرصدة الإيرانيّة المتبقّية منذ زمن الشاه في البنوك على أراضيها، إضافة لدعم الرئيس العراقي صدام حسين أثناء حرب الخليج الأولى بين العراق وايران.
الملف النووي
في الملف النووي، يظن البعض أن نشاط إيران النووي بدأ مع الثورة الإسلامية، لكن الواقع أن أميركا هي من كانت تدعم هذا النشاط زمن الشاه محمد رضا. ففي عام 1957 وقّعت الولايات المتحدة وإيران على اتّفاقية حول استغلال الطاقة النووية لأغراض سلميّة. وبعدها بعشر سنوات، قدمت واشنطن مفاعلا نوويا لمركز أبحاث في طهران ووقود المفاعل على شكل يورانيوم مخصب إلى درجة 93 في المئة وهو نفس درجة تخصيب اليورانيوم المستخدم في إنتاج الأسلحة النوويّة. وفي عام 1968 وقّعت إيران على إتّفاقية منع انتشار الأسلحة النوويّة وصادقت عليها بعد عامين، شريطة السماح لها بالاحتفاظ بالمفاعل واستخدامه لأغراض سلميّة. ولكن بعد نجاح الثورة الإسلاميّة، تغيّر الموضوع وفرضت العقوبات على طهران ولا زالت حتى اليوم، وبدأت الحرب الضروس ضد برنامج طهران النووي.
إعادة احياء الثورة الإيرانية
إلا أن تموز عام 2015 كان مفترق طرق في العلاقات بين الجمهوريّة الإسلامية وباقي دول العالم بعد التوصل إلى "اتفاقية خطة العمل المشتركة الشاملة" (أي ما يعرف بالاتفاق النووي الإيراني)، والتي وافقت بموجبها إيران على مجموعة من الخطوات، من بينها تخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي ووقف العمل بالجزء الأساسي من مفاعل آراك، مقابل تخفيف العقوبات المفروضة عليها من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة بدرجة كبيرة.
لكن في أيار 2018 أعلن ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي تنفيذاً لتعهداته خلال حملته الانتخابيّة. وتدهورت العلاقة بشكل متسارع بين البلدين لتصل إلى ذروة الأزمة بعد اغتيال سليماني.
هكذا، أعاد ترامب إحياء الثورة في إيران. فبعد غياب أيّ حدث جامع للشعب الإيراني منذ الحرب العراقيّة الإيرانيّة في ثمانينات القرن الماضي، تمكن الايرانيون من توحيد صفوفهم بعد الضربة الأميركيّة، وقتل أيّ فرصة لمحاولة تسلل المخطّطات الأميركية لقلب نظام الحكم.
بناء على ما سبق، فإنّ الصراع بين أميركا وإيران هو أبعد من أزمة بين نظامين، وأبعد من أزمة بين محورين، هو صراع محفور في أذهان الشعب الإيراني ومتجذر في رفض الهيمنة والاستكبار الأميركي تجاه هذا الشعب.