في المعارضة، قرّر تيار "المستقبل" أن يتموضع، بعد إقصاء رئيسه سعد الحريري عن رئاسة الحكومة، وتسمية حسّان دياب بديلاً له، ولو رئيساً لحكومة "اختصاصيين" لا "مواجهة"، كما يصرّ عرّابوه على التأكيد.
بدا توجّه الحريري نحو المعارضة أكثر من واضح في تسلسل الأحداث منذ انسحابه من السباق إلى رئاسة الحكومة، وهو أعلنه بوضوح عشيّة عيد الميلاد، حين أطلق معادلته الشهيرة "لا تسمية ولا تغطية ولا مشاركة ولا ثقة إذا تطلب الأمر".
وإذا كان الحريري "انكفأ" بشكلٍ أو بآخر بعد ذلك، فإنّ بيان كتلة "المستقبل" الأخير انطوى على أكثر من مفارقة، إذ جدّدت الكتلة تأكيد "امتناعها عن المشاركة في أيّ تشكيلةٍ حكوميّة"، لكنّها دخلت في الوقت نفسه في "دهاليز" عملية التأليف، منبّهة ممّا أسمتها بـ"محاولات وضع اليد مجدّداً على الثلث المعطّل".
فلماذا يدخل "المستقبليّون" على خطّ تأليف حكومةٍ أعلنوا معارضتها سلفاً، ورفضوا المشاركة فيها من الأصل، مباشرةً أو بالواسطة؟ وهل صحيح أنّ "الرهان" لا يزال كبيراً على سقوط أو إسقاط دياب، وعودة الحريري على "الحصان الأبيض"؟!.
على خطى "الاشتراكي"؟!
في بيانها الأخير، لم تتردّد كتلة "المستقبل" في التعليق على ما وصفتها بـ"المعلومات المتداولة" حول عملية تشكيل الحكومة، التي يفترض أنّها نأت بنفسها عنها بالمُطلَق منذ تكليف دياب تشكيلها، بمُعزَلٍ عمّا سُمّيت بـ "الميثاقية السنية".
أعادت الكتلة "الزرقاء" إلى التداول مصطلح "الثلث المعطّل" الذي لطالما رافق حكومات الوحدة الوطنية، لا "اللون الواحد"، وذهبت بعيداً بالحديث عن "دخول جهات نافذة من زمن الوصاية على خطوط التأليف والتوزير واقتراح أسماء مكشوفة بخلفياتها الأمنية والسياسية".
وإذا كان من حقّ "المستقبل" أن تمارس المعارضة التي قرّرت التموضع فيها، فإنّ ثمّة من طرح علامات استفهامٍ كثيرة، إذ ما الذي يقدّمه أو يؤخّره حصول فريقٍ ما على الثلث المعطّل من عدمه، بالنسبة إلى من قرّر معارضة الحكومة سلفاً وحجب ثقته عنها؟ ولماذا تعترض الكتلة "الزرقاء" اليوم على ثلثٍ معطّلٍ في حكومةٍ ليست جزءاً منها، بعدما كانت تلتزم الصمت في حكوماتٍ كانت محسوبة عليها أصلاً؟! وأليس الأولى أن تنتظر ولادة الحكومة حتى تبدأ بممارسة سلوك المعارضة، وتحكم على التشكيلة النهائية، بدل التعليق على معلوماتٍ صحافيّة من هنا، وتسريباتٍ إعلاميّة قد لا تكون دقيقة من هناك؟!.
وأبعد من ذلك، يذهب البعض إلى حدّ تشبيه وضعيّة "المستقبل"، بشكلٍ أو بآخر، بوضعيّة "الحزب التقدمي الاشتراكي"، ولو كان الأخير يتصرّف "على المكشوف"، فتماماً كما سبق للنائب السابق وليد جنبلاط أن أعلن معارضته المُطلقة للحكومة، بل قاطع الاستشارات غير الملزمة مع رئيس الجمهورية، قبل أن يعود ويتدخّل بـ"تفاصيل التفاصيل" في ما يتعلق بحجم الحصّة الدرزية ونوعها، ها هي "المستقبل" تشدّد على رفض المشاركة في الحكومة، ولكنّها في الوقت نفسه تدخل على خط التأليف، ما برز في بيانها الأخير، وقبله ببعض التحرّكات الشعبيّة، فضلاً عن الضغوط على بعض "المستوزرين"، في إطار ما سُمّيت بـ"العقدة السنّية".
حذارِ "الكيدية"!
وإذا كان "المستقبليّون" يتنصّلون من كلّ هذه الأفعال، ويردّونها إلى بعض المناصرين لا المحازبين في أفضل الحالات، فإنّ ثمّة من لا يزال يقرأ، خلف كلّ تصريحات قياديي "المستقبل" ونوابه، رهاناً على عودة الحريري في نهاية المطاف، باعتبار أنّ أيّ تشكيلةٍ حكوميّةٍ من النوع الذي يتمّ طبخه حالياً، لن تقوى على الصمود، سواء في مواجهة المتغيّرات الإقليمية الكبرى، أو حتى في مواجهة الحراك الشعبيّ الداخليّ الذي لن يقبل بحكومةٍ تشبه سابقاتها، وإن كان يبدي "حسن نيّة" بمنح رئيسها "مهلة سماح".
ولكن أبعد من هذا "الرهان"، الذي يدرك القاصي والداني أنّ الحريري كان متمسّكاً به منذ إعلانه استقالة حكومته، وصولاً إلى إعلان خروجه من السباق، مروراً بمعادلة "ليس أنا بل أحد آخر" التي أطلقها، قبل إحراق الأسماء التي كان يقترحها لخلافته واحداً تلو الآخر، فإنّ ما لا يخفى على أحد أنّ لدى "المستقبليّين" الكثير من الهواجس، التي تدفعهم لعدم الصمت، والاكتفاء بـ "التفرّج" في هذه المرحلة.
ويمكن القول إنّ هذه الهواجس بدت أكثر من جليّة وواضحة من خلال استحضار "تجربة العام 1998 وسياساتها الكيدية" في بيان كتلة "المستقبل"، من باب التحذير من وجود "مخططات متنامية لتكرارها"، وفي ذلك إشارة لا تحتمل اللبس إلى عهد الرئيس السابق إميل لحود، الذي اتّسمت علاقته مع رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، بـ"حدّة" واضحة، بدأت منذ وصول لحود إلى الرئاسة في العام 1998، وبلغت ذروتها في العام 2004 مع خروج الحريري من رئاسة الحكومة، قبل عمليّة اغتياله في العام 2005.
وعلى رغم اختلاف الظروف والحيثيّات، فإنّ لدى "المستقبليّين" خشية كبيرة من وجود مساعٍ لتكرار التجربة، بعدما وقع "الطلاق" بين الحريري و"العهد" ممثَّلاً برئيس الجمهورية ميشال عون ومن خلفه الوزير جبران باسيل، وإنهاء العمل بـ"التسوية" التي حكمت البلاد في السنوات الثلاث الماضية. وتتصاعد انطلاقاً من ذلك، المخاوف من وجود نوايا لـ"تصفية الحسابات"، والتي بدأت بإقصاء الحريري من الحكم، وتُستكمَل بمهاجمته عبر منابر "التيار الوطني الحر"، وعلى لسان نوّابه، وصولاً إلى حدّ تحميله حصراً مسؤوليّة الفساد، وكأنّه كان وحده في الحكم، علماً أنّ الجميع يعرفون من الذي كان يسيطر على الحكم على امتداد الأعوام الأخيرة، ومنذ ما قبل انطلاقة "العهد" حتى، بحسب ما يقول "المستقبليّون" أنفسهم.
"جريمة" أخرى!
لا يخفى على أحد أنّ الرهان على عودة الحريري، عاجلاً أم آجلاً، يطغى على ما عداه في قاموس "المستقبل" وغيره، من معارضي رئيس الحكومة المكلّف، ولكن حتى من الكثير من "عرّابيه" ومؤيّديه.
ولا شكّ أنّ "نكران" قياديّي "المستقبل" لمثل هذا الرهان لا يبدو كافياً لعدم التسليم به، خصوصاً أنّه سبق لهم أن نفوا رغبة الحريري بالعودة لرئاسة الحكومة، ليتبيّن عكس ذلك، قبل أن يتراجع تفادياً لـ"الإحراج".
يقود مثل هذا التسليم إلى استنتاج أنّ حسّان دياب قد لا يكون، في عيون بعض رموز السلطة، أكثر من "وسيلةٍ" أخرى لتحسين شروطٍ تفاوضيّة من هنا أوهناك، تماماً كما حصل مع رجل الأعمال سمير الخطيب وغيره.
ولكن، إذا صحّ كلّ ذلك، من يتحمّل مسؤوليّة الوقت "المهدور" وسط كلّ هذه المعمعة، والكلّ يردّد ثابتة أنّ البلاد لا تتحمّل "ترف" الانتظار، وسط تهديد "الانهيار"؟! أليس مثل هذا التأخير "جريمة" تكاد ترقى لمستوى جرائم "الفساد" التي يتقاذف كرتها المسؤولون أنفسهم فيما بينهم؟!