كان نائب مدير مكتب التحقيقات الفدرالي F.B.I السابق اندرو ماكيب مُحقاً في المقال الذي نشره في صحيفة «واشنطن بوست»، والذي حذّر فيه من الركون الى الاطمئنان بأنّ جولة التصعيد مع ايران انتهت مع قصف القاعدتين العسكريتين في العراق. وأضاف أنّ الردود الايرانية المعتادة في مواجهات مشابهة عادة ما تكون على شكل حرب العصابات، بحيث يمكن لإيران أن تضرب وأن تتنصّل من مسؤوليتها. وختم قائلاً: «انّ لدى إيران تاريخاً طويلاً من توجيه الضربات حيث لا يتوقع خصومها».
في الواقع تؤكد المعلومات انّ إيران باشرت تطبيق البرنامج الذي يتيح لها خوض «حرب الاشباح» مجدداً. ويبدو انّ واشنطن تدرك هذا الامر وتُبدي قلقها منه.
لكن السؤال هو متى وأين؟
حتى الساعة لم تظهر إجابة مقنعة حول السبب الذي دفع ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى رفع مستوى المواجهة، وتجاوز الخطوط الحمر وتعديل قواعد الاشتباك المعمول بها، والذهاب الى اغتيال قاسم سليماني.
ولم يعد خافياً انّ بعض صقور الادارة الاميركية شجعوا ترامب على الخطوة، وفي مقدمهم نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو.
وفيما كان «البنتاغون» معارضاً دفع الامور نحو المجهول في العراق، وبالتالي تعريض الجنود الاميركيين للخطر الدائم، كان مفاجئاً موقف مديرة وكالة الاستخبارات المركزية CIA جينا هاسبل التي قالت لترامب، على ما نُقل عنها، إنّ التهديد الذي يمثّله بقاء سليماني اكبر من التهديد الذي يمثله الرد الايراني على مقتله.
وبالتالي، فإنّ اغتيال سليماني نقل المنطقة الى مرحلة جديدة. صحيح انّ الرد الايراني الصاروخي جاء مدروساً بعناية، لكن لذلك ظروفه ومفهومه المختلف. كانت طهران تعرف أنّ إبلاغ بغداد مسبقاً سيؤدي الى تَسرّب الخبر الى واشنطن التي سارعت الى اتخاذ الاجراءات اللازمة لقواتها العسكرية، ومن ثم أتاحت التكنولوجيا المتطورة للجيش الاميركي من رصد إطلاق الصواريخ وتحديد الهدف الذي تتوجّه نحوه، وبالتالي وضع الجنود في الملاجئ المحصنة.
اعتبرت طهران انها رَدّت معنوياً على رمزية الصفعة المعنوية في اغتيال سليماني، لكنّ الانتقام هو طبقٌ لا يُؤكل إلاّ بارداً، وهو ما تعمل عليه.
فقبل اغتيال سليماني كان «فيلق القدس» يعمل فوق الارض، امّا بعد الاغتيال فإنّ العمل جارٍ للاختفاء تحت الأرض تمهيداً لحرب الاشباح. ما يعني انه خلال الاسابيع المقبلة سيستمر العمل على استكمال الاختفاء كلياً تحت الارض، وعلى إتمام التحضيرات المطلوبة من رصد الارض وتحضيرها وتدريب المجموعات وتجهيزها قبل الشروع في «حرب الاشباح». وهو ما معناه أنّ هذه الحرب في حاجة الى بضعة اسابيع قبل أن تبدأ، عندها سيكون طبق الإنتقام قد اصبح بارداً.
وفي وقت استفاد نظام الملالي في إبراز مراسم الوداع الشعبي لسليماني لتكون بمثابة تجديد شباب الثورة الاسلامية بعد الهزّات التي تعرضت لها خلال السنوات الماضية، فإنه باشَر في درس الساحات التي ستحتضن العمليات المنتظر حصولها.
في افغانستان تبدو الامور مستبعدة لكي لا يؤثر ذلك سلباً على الاتفاق الذي حصل بين واشنطن وحركة «طالبان»، وقضى بمعاهدة سلام تنهي الوجود العسكري الاميركي.
وفي الخليج تبدو الامور قابلة للانتظار بعض الوقت. وربما هي مرتبطة بشروط أخرى، مثل تصاعد المواجهات البحرية حول تصدير النفط.
لذلك تبقى الساحة الفضلى هي الساحة العراقية حيث الوجود الاميركي الكثيف.
وفيما الساحة اللبنانية تبدو مستبعدة، فإنّ الساحة السورية بدورها قد توضع جانباً، خصوصاً بعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدمشق قبل أيام، والتي تعني انّ الساحة السورية هي من ضمن نفوذ روسيا، وانه يجب استبعادها عن المواجهة الحاصلة بين واشنطن وطهران.
ويعتقد البعض انّ موسكو قد تكون غير منزعجة من غياب سليماني، لأنّ ذلك سيؤدي الى إضعاف موقع إيران داخل المعادلة السورية، وهو ما يصبّ في مصلحة النفوذ الروسي. إلّا انه لا يجب الذهاب بهذه الفرضية بعيداً، خصوصاً مع وجود هدف جيو- سياسي مشترك روسي ـ إيراني ويتمثّل أيضاً بالحد من النفوذ الاميركي. ما يعني انّ موسكو ستعمل بهدوء على الاستفادة من الاحداث، ولكن من دون ارتكاب أخطاء.
في هذا الوقت وعلى الضفة الاميركية ثمّة جديد يجري العمل عليه. فالديموقراطيون الذين يستعدون للانتخابات الرئاسية شرعوا في انتقاد عملية اغتيال سليماني معتبرين أنها انتصار فارغ المضمون وقصير الأمد، بَدا انّ ثمة تقاطع واضح في المصلحة بينهم وبين الاسرائيليين وعنوانه إسقاط ترامب في الانتخابات.
فعودة جثث الجنود الاميركيين ستنعكس سلباً حتماً على حملة ترامب الانتخابية. وفي تلميحه الى وجود تواصل ما بين الديموقراطيين وطهران، والذي قيل انّ جون كيري هَندسه منذ نحو سنة، قال ترامب انه لم يُبلّغ الديموقراطيين بالعملية مسبقاً كما هي العادة «لأنني كنت اخشى تسريب المعلومات».
لكن فريق ادارة ترامب يدرك أنّ تعريض جنوده لضربات حرب الاشباح سيكون مكلفاً. اضافة الى انّ رأياً قوياً بدأ يظهر داخل ادارته حول السعي الى إعادة هندسة السياسة الاميركية في المنطقة، ورسم استراتيجية واضحة تلبّي المصالح الاميركية الحقيقية وليس الاستمرار في سياسة الفعل وردات الفعل، والتي لا تحمل مضموناً فعلياً كمثل اغتيال سليماني الذي بقي بلا مضمون سياسي.
هذا التوجّه الجديد، والذي يتولّاه فعلياً فريق الامن القومي، يعمل على وضع برنامج كامل وخطة ببُعد استراتيجي تكون المفاوضات نتيجة حتمية له، وهو ما سينعكس ايجاباً على لبنان في حال السير فيه. ولكن لا احد ينتظر ان يبدأ تنفيذ هذا البرنامج خلال الاسابيع المقبلة. فالظروف التي يجب تهيئتها تحتاج لبضعة اشهر، ما يعني أنّ الاسابيع المقبلة مرشحة لانطلاق حرب الاشباح عبر الساحة العراقية ووفق معايير محددة. وربما قد تشكّل هذه العمليات فرصة لإنضاج ظروف التفاوض.