في الأيام الأخيرة بدأت تتسرّب معلومات من أوساط بعض القوى السياسية في السلطة، ومفادها أنّ هذه القوى تتهيّأ لِتفاجئ الرأي العام بطرح انتخابات نيابية مبكرة، جدياً، وفي مواعيد قريبة جداً. لذلك، يبدو لافتاً ما قاله النائب السابق وليد جنبلاط مساء أمس في عين التينة وما غرَّد به النائب سامي فتفت بعد الإشكال الذي تعرَّض له خلال وجوده في أحد المطاعم إذ قال: «إن قسماً كبيراً من الشعب يعتبر انّنا نحن النواب فقدنا الشرعية. والحل الوحيد هو انتخابات مبكرة، بقانون عادل. فإمّا أن تتأكّد شرعيتنا، وإما أن نسقط ويتم فرزُ طبقة سياسية جديدة تدير البلد.»
ووفق المعلومات، إذا نجح تسويق الاتجاه الى انتخابات نيابية مبكرة، فإنّ الأمر يستحق تجاوز المأزق الحكومي «بالتي هي أحسن»، وتسهيل مهمة الدكتور حسان دياب تشكيل حكومة توحي شكلياً بأنها حكومة تكنوقراط ومستقلين، فيما هي واقعة عملياً تحت سيطرة قوى السلطة التي تديرها بـ«الريموت كونترول».
وبعد ذلك، يصبح ممكناً القفز إلى الخطوة التالية المطلوبة، أي إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وفي مهلة زمنية لا تتجاوز الـ3 أشهر. ويفكّر «الثنائي الشيعي» في أنّ هناك فرصة نادرة لإجراء الانتخابات وفق القانون المفضّل لديه، أي لبنان دائرة واحدة وعلى أساس نسبي.
وسيستفيد «الثنائي» من الأصوات الكثيرة التي ارتفعت في الشارع خلال الانتفاضة مطالِبة باعتماده، وسيوحي بأنه حقّق مطلباً أساسياً للشعب الذي يتوق إلى تجاوز الاعتبارات الطائفية والمذهبية، وتجديد الطبقة السياسية والنظام.
واقعياً، لا يمكن أحد أن يقتنع بأنّ هذا الطرح سيقود إلى تجديد الطبقة السياسية. وفي تعبير أكثر دقّة، لا يمكن أحد أن يقتنع بأنّ أي قانون انتخابات مهما كان متطوراً أو عادلاً سيحقق هذا الهدف، لأنّ القوى النافذة تمسك تماماً بعناصر العملية الانتخابية وتقودها إلى حيث تريد.
فقوى السلطة تتحكّم اليوم بالناخب والمرشح والتحالفات الانتخابية، وتستطيع إدارة الحملات الانتخابية مدعومة بالنفوذ والمال وكل وسائل الإغراء المعروفة، ومن دون ضوابط قانونية كما هو الأمر في كل عمليات الانتخاب السابقة.
وهذا ما سيؤدي إلى تكريس المنظومة السياسية القائمة حالياً. وعندئذٍ، سترفع قوى السلطة شعار: «الشعب اختارنا، ونحن الأكثرية الحقيقية. وما على الانتفاضة إلّا أن ترضخ لإرادة الشعب الذي قال كلمته في صناديق الاقتراع وحسم الجدل».
طبعاً، «الثنائي الشيعي» سيكون المُبادر إلى هذه «الطبخة» لأنه الأقوى في السلطة والمؤسسات وعلى الأرض، وهو الأقدر على إدارتها، ولأنّ الدائرة الواحدة هي خياره. لكنّ «التيار الوطني الحر» سيكون معه أيضاً للحفاظ على الشراكة في السلطة.
وكذلك، بالتأكيد، سيكون الرئيس سعد الحريري هو الشريك السنّي المفضّل في التركيبة. ولا أحد سواه حتى الآن استطاع تأمين تغطية الطائفة بهذا الاتساع.
ويرتاح «الثنائي» إلى شراكة «المستقبل» في الانتخابات، ولو بطريقة غير مباشرة، لأنه يستطيع عقد الصفقات والتحالفات مع فريق 14 آذار، كـ«القوات اللبنانية» مثلاً، وتأمين أكبر عدد ممكن من النواب الذين سيكونون واقعياً «حصان طروادة»، أي جزءاً من التغطية التي يوفرها «المستقبل» لـ«حزب الله» من خلال الشراكة في الحكم.
وأمّا جنبلاط فبالتأكيد سيجد له رئيس مجلس النواب نبيه بري موقعاً في هذه العملية. وإذا وجدت «القوات» نفسها معزولة خارج النادي، أي أنّ الجميع سيقيمون التحالفات ويحاصرونها، فقد تختار حدّاً معيناً من الواقعية ليبقى لها حضورها الفاعل في المجلس. و«القوات» تعرضت للعزل في الانتخابات الأخيرة، لكنها استفادت من تقاطع المصالح لتزيد حجم كتلتها النيابية.
واستعداداً لإخراج «أرنب» الانتخابات المبكرة، تمّت مناجاة الحريري وهو في إجازته الباريسية، ودعوته إلى الحضور وتفعيل تصريف الأعمال. وفي الموازاة، َشنّت قوى السلطة حملات سياسية هدفها تبييض الصفحة ومحاولة التنَصّل من المسؤولية عن وصول البلد إلى الكارثة.
لكنّ مشكلة هذا الفريق تكمن في أنّ العودة إلى الحريري كرئيس مكلّف، بعد دفع دياب إلى اليأس والاعتذار، لن تشكّل الحل المناسب. فالحريري، كما يعتقد كثير من المتابعين، بات «محروقاً» تماماً لدى القوى الدولية والعربية المعنية بدعم لبنان، وميؤوساً منه لجهة قدرته على تأليف حكومة مستقلين تستطيع مواجهة القوى السلطوية النافذة. وقد تمّ اختباره لسنوات في هذا المجال.
ولذلك، ثمة فرصة يعطيها المعنيون بدعم لبنان، إذا نجح الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة المطلوبة، والتي هي فعلاً حكومة مستقلين فعلاً لا شكلاً، أي أنّ أعضاءها لا تسمّيهم القوى النافذة ولا تتحكم بهم. ففي هذه الحال، يمكن المراهنة على بدء تعاون المجتمع الدولي والقوى العربية مع لبنان ومساعدته على تجاوز مأزقه.
ويعتقد المتابعون أنّ الهاجس الأول لدى قوى السلطة هو ما ستؤول إليه التحديات القائمة حالياً على ملعب الشرق الأوسط. فالحدث الإقليمي يتسارَع فصولاً، وسيفرض حتماً تداعياته على لبنان وتوازنات القوى فيه. ولذلك من مصلحة الفريق القوي اليوم أن يُسارع إلى تسوية تستبق التحوّلات، تقلّص الخسائر، وتحفظ أقصى حدّ ممكن من النفوذ.
ولكن، هل ما زال الوضع اللبناني المهترئ يسمح بالمناورات؟ وهل ما زال «الجمهور» يصدِّق طبقة سياسية تخدعه... مرّة بأرنب من تحت القُبّعة، وأخرى بحمامة من تحت الكُمّ؟