«زعم الفرزدق أنّ سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع»
(جرير)
في أيام الشباب كنت أسمع تلك النصيحة يردّدها المسنّون في حيّنا خلال جلساتهم، وأنّه من غير الحكيم تسليم سلاح «للخائف» لأنّه في الإجمال سيسيء استعماله، فإمّا أن يجرح نفسه بسلاحه، أو يتسبّب بالضرر لآخرين من غير قصد. لكن الكارثة تقع عندما يكون الحدث الموصوف «بغير المقصود» حاصله مأساة إنسانية بحجم سقوط طائرة مثلاً. فالحدث، رغم كل محاولات تسويغه، لا يمكن تسميته بالقضاء والقدر، فهو حدث بكل تأكيد كان من الممكن تجنّبه، لو أنّ الإجراءات الاحترازية العادية تمّت مراعاتها من قِبل السلطات الإيرانية. فإيران دولة في حالة حرب مستمرة منذ نشأة الثورة فيها عام 1979. وهذا يعني أنّ الخبرة والمراس يجب أن يكونا صفة المسؤولين فيها، على الأقل في المسائل العسكرية. والمستغرب أيضاً، هو أنّ الطائرة وركابها العاثري الحظ، كانوا قد انطلقوا من مطار طهران، أي من الداخل إلى الخارج، وهذا يعني أنّه حتى الرادارات التي يعود تاريخ صنعها إلى الحرب العالمية الثانية كانت قادرة على تحديد وجهة الطائرة ومسارها. وكان في الإمكان أيضاً مشاورة القيادة بسرعة، على الأقل تلك الميدانية منها، بمسألة إطلاق صاروخ مضاد للطائرات قادر على الوصول إلى ارتفاعات عالية، هذا إلّا إذا أرادت القيادة الإيرانية إقناعنا بأنّ هذا النوع من السلاح أصبح متروكاً لاجتهاد جندي متحفّز في خندق ما!
ليس من المستغرب أن تُصاب القيادة في إيران بالدهشة وأن تنكر إصابة الطائرة في الساعات الأولى التي تلت الكارثة، فحتى أكثر الدول قدرة، عليها أن تأخذ بعض الوقت لدرس الموقف، والبحث في طريقة تغطية الخطأ في شكل ما، وهذا ما حدث فعلاً عندما أنكرت القيادة في إيران فرضية إصابة الطائرة بصاروخ إيراني. والواقع هو أنّه حتى الدول المعادية لإيران تريثت في طرح تلك الفرضية إلى أن ظهرت البراهين الدامغة عمّا حصل. لكن ما حصل أظهر بكل وضوح، أنّ في العسكر كما في السياسة، أن القيادة الإيرانية تفتقر إلى التنسيق حتى في البديهيات المتعلقة بالأمن القومي. فقد اعتمدت إيران في منطقها العسكري في شكل أساسي على قدرتها الفعّالة في تشغيل أتباعها خارج إيران لردع أعدائها، أو لتوجيه رسائل التهديد للآخرين. وقد يكون الشعور بالأمان، أو ربما التطمينات والتفاهمات المرسومة من تحت الطاولة، أو ربما شح القدرات، هي كلها ساهمت في إضعاف قدرة إيران على السيطرة المركزية على أطرافها، في الداخل كما في الخارج. فأصبحت إيران فعلاً أوهن من بيت العنكبوت.
لكن الاستنتاج المنطقي من كل ذلك، هو أنّ ما دفع إيران، والجندي الذي «أخطأ» في إسقاط طائرة ركاب لاعتقاده أنّها طائرة أميركية، هو الخوف من ضعفها الأكيد في حال حدوث أي مواجهة فعلية مع الولايات المتحدة الأميركية. والخوف هو سبب الإرباك في التصريحات التي تحدثت في البداية عن مقتل عشرات الأميركيين في الهجوم الصاروخي المتزامن مع إسقاط الطائرة الشهيدة، ومن بعدها التأكيد أنّ الحرس الثوري تقصّد عدم إسقاط ضحايا! ولكن السؤال الملح الآن هو أنّه إذا كانت أجهزة الدفاعات الجوية الإيرانية وقعت في هذا الخطأ الكارثي، بينما هي في حالة هجوم موقت ومبرمج، فكيف سيكون حال تلك الدفاعات لو فرضنا أنّ إيران كانت تتعرّض لهجوم واسع النطاق من دولة قادرة على تشويش كل قدرات إيران على الرصد، فهل ستُسقط الصواريخ الإيرانية عندها طائرات العدو أم طائراتها؟ وهل سيدفع انكشافها إلى الجنوح نحو قبول الأمر الواقع ومنح دونالد ترامب النصر الذي يسعى إليه باتفاق نووي جديد يجدّد به الرئاسة؟ أو أنّ انكشاف إيران سيدفعها إلى مزيد من التضحية بالأتباع والذهاب بها إلى مغامرات مدمّرة، ولكن خارج أرضها؟ كل هذا سيتبيّن قريباً، لأنّ رهان الأطراف على عامل الوقت لم يعد متاحاً، فإيران الصبورة في أخذ الثأر، لم يعد ثأرها كما بدا يتعدّى الصواريخ المعتذرة سلفاً عن الإصابة، حين أصبح الثأر شديد الأكلاف عليها بنحو لن تتمكن من احتماله، إلّا طبعاً إذا قررت الانتحار، وليس في إمكانها التعويل على عامل الوقت الذي قد يؤدي بترامب إلى الخروج من البيت الأبيض، لأنّه، كما يبدو، مصرّ على تحقيق نصره في أسرع وقت، سلماً أو حرباً.
ولكن، ومجدداً، فما يؤرقنا نحن، هو الخوف من أن تتحرّك أذرع إيران في لبنان من أجل ردع ترامب، وأن يردّ ترامب عليها بالمثل!
في تغريدة لافتة لإحدى السيدات قالت: «إذا كان الحرس الثوري غير قادر على التفريق بين طائرة مدنية وصاروخ كروز، فهل سيعرف الصاروخ الإيراني التفريق بين تل أبيب وبيروت مثلاً؟».