بناء على ما تقدم في التقريرين الأول والثاني، يمكن رسم صورة أوضح لما يجري في منطقة شرق البحر المتوسط، حيث هناك 3 قوى عالمية معنية بالصراع: الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، روسيا. الأولى تسعى إلى تنويع مصادرها من الطاقة، بينما الثانية تسعى للدخول على هذا الخط لتسويق غازها والحد من الاعتماد الأوروبي على موسكو، في حين أن الثالثة تهدف للحفاظ على أسواقها.
هذا الواقع، يدفع بالقوى المذكورة إلى الدخول بقوة على المشهدين الاقتصادي والسياسي في الدول المعنية، بالتزامن مع اهتمامها بمشاركة شركاتها في عمليات التنقيب، من دون تجاهل حضورها العسكري لضمان حماية مصالحها الاستراتيجية، في حين يبرز على المستوى الإقليمي التنافس بين كل من تركيا ومصر وإسرائيل، رغم تحالف كل من القاهرة وتل أبيب في منتدى غاز البحر المتوسط.
وسط هذا المشهد، من الضروري السؤال عن موقع لبنان من هذا الصراع، خصوصاً مع اقتراب موعد حفر أول بئر، سيما وأنه غارق في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة، ونزاع حول حدوده البحرية مع إسرائيل، بينما تسعى الولايات المتحدة، الداعمة لمنتدى غاز البحر المتوسط، إلى تأمين مصالح تل أبيب، عبر الوساطة التي تقودها لحل النزاع الحدودي، وإلى الدخول على خط عمليات التنقيب والاستكشاف في المرحلة المقبلة، الأمر الذي يتطلب البحث في تداعيات خط الأنابيب الإسرائيلي–القبرصي–اليوناني، وفي تداعيات غياب لبنان عن المنتدى المذكور آنفا، خصوصاً على مستوى خيارات التصدير مستقبلاً.
في المستقبل القريب، لا يمثل مشروع أنابيب شرق المتوسط تهديداً مباشرَ لسيادة لبنان أو الموارد البحرية المحتملة، بحسب ما تؤكد مصادر معنية لـ"النشرة"، نظراً إلى أنه من غير المتوقع انتاج الغاز الطبيعي اللبناني في المستقبل القريب، بل قد تستغرق مراحل الاستكشاف والتقييم والإنتاج والتطوير حوالي 8 سنوات، كما أن الأولوية اللبنانية تتمثل في تزويد السوق المحلي بموارد محلية من الغاز لتوليد الطاقة.
بالإضافة إلى ذلك، توضح المصادر نفسها أن هناك خيارات أخرى للتصدير موجودة، سواء من خلال الاتصال بخط الغاز العربي والصادرات إلى تركيا، أو عبر منشآت الغاز الطبيعي المسال في مصر، كما أنه يمكن أن يكون للبنان مشاريع مشتركة لتطوير البنى التحتية مع الدول المجاورة الصديقة.
على صعيد متصل، مشروع أنابيب شرق المتوسط على الرغم من أهميته لا يعد كافياً لتلبية احتياجات أوروبا من الطلب المتزايد على الغاز، حيث تبلغ طاقته 10 مليار متر مكعب معظمها من ليفياثان في إسرائيل حتى الآن، بينما الوكالة الدولية للطاقة تتوقع أن يبلغ الطلب على الغاز في الاتحاد الأوروبي حوالي 386 مليار متر مكعب في عام 2040، في حين وقعت الحكومة القبرصية مؤخراً اتفاقية تعاون في مجال الطاقة مع الحكومة المصرية، لدراسة خيار تصدير الغاز من حقل أفروديت إلى مصانع الغاز الطبيعي المسال في مصر، وبالتالي ما لم يتم العثور على اكتشافات إضافية في إسرائيل وقبرص، فإن المشروع يمكن أن يعمل بأقل من طاقته الكاملة، ما يعني عدم قدرة غازه على المنافسة مع الغاز الأرخص من روسيا.
من وجهة نظر هذه المصادر، هذا المشروع، من الناحية الدبلوماسية، يمكن أن يمثل تهديداً محتملاً، لأنه يستبعد لبنان من الاتفاقيات التجارية التي تتم بين الدول الصديقة تقليدياً، مثل اليونان وقبرص والتي شهدت تقارباً مع إسرائيل حول المصالح المشتركة بشأن الغاز الطبيعي، كما تم توقيع العديد من اتفاقيات البيع لتزويد الغاز من ليفياثان إلى الدول المجاورة، مثل مصر والأردن، وهذه الاتفاقيات التجارية يمكن أن تحد من خيارات لبنان للاستفادة من استخدام البنية التحتية وخيارات التصدير.
حتى الآن، تشدد المصدر المعنية على أنه ليس من المخطط أن يمر خط الأنابيب عبر المياه البحرية اللبنانية أو المنطقة الاقتصادية الخالصة، لكن في حال حصول ذلك سيكون على لبنان المطالبة بحصته من تعرفة نقل الغاز، إنما المسألة التي تبقى أكثر إلحاحاً بالنسبة إلى لبنان للنظر فيها، تتعلق بإنشاء منتدى شرق البحر المتوسط للغاز ومقره القاهرة واتفاقية مبيعات الغاز الموقعة مؤخراً من إسرائيل إلى الأردن.
في المحصلة، هذه مجموعة من المخاطر التي قد تواجه لبنان في المستقبل، وبالتالي من المفترض البدء في البحث حول كيفية التعامل معها منذ الآن، لا سيما أن التوترات على مستوى المنطقة تتعاظم يوماً بعد آخر، في حين أن الخلافات الداخلية والانقسامات المعروفة في لعبة المحاور قد يكون لها تداعيات خطيرة على هذه الثروة، التي يراهن عليها اللبنانيون لتجاوز أزماتهم الاقتصادية والمالية والاجتماعية.