يُخطئ مَن يعتبر أنّ انتفاضة 14 كانون الثاني 2020 هي نفسها انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. كثيرة هي الأمور التي تغيَّرت منذ ذلك الوقت، ومعها تغيَّرت الانتفاضة. وعلى الأرجح، سيكون الحراك السابق «متواضعاً»، قياساً إلى الموجة الآتية التي سيغذيها الجوع والقهر والإحباط. فهل مَن يُخبر قوى السلطة عن عواقب الإذلال، وما يفعله الإنسان عندما يجوع؟
أثبتت التجارب أنّ قوى السلطة الحالية في لبنان مستعدة للقتال حتى النهاية لتحتفظ بمكتسباتها المحقَّقة بنهج الفساد… وأنها لا تتنازل إلّا عندما تُجبَر على ذلك.
حتى الحراك المدني، بحجمه المتواضع نسبياً، في الأعوام 2015 - 2018، والذي رفع عناوين «فرعية» كمعالجة ملفات النفايات والبيئة، تم استضعافه بمختلف الطرق و«تزحيطه».
فقد تواطَأ أركان السلطة مجدداً وأبرموا الصفقات المثيرة للجدل، وسَخِروا من الداعين إلى الشفافية. كما عمدوا بالتكافل والتضامن إلى إقرار قانون انتخاب مدروس و«مضبوط جداً»، بحيث يمنع أيّاً كان من دخول المجلس النيابي ما لم يكن من داخل النادي أو مرضيّاً عنه في هذا النادي. ولذلك، تمّ إقصاء قوى المجتمع المدني في انتخابات 2018. وتخلَّصت الطبقة السياسية من ذلك الحراك بضربة واحدة، و«ديموقراطياً»!
في 17 تشرين الأول الفائت، نَضجت الظروف لانتظام الغضب الشعبي مجدداً، وعلى نطاق أوسع. فقرّرت قوى السلطة إسقاطه بطرق مختلفة، بما في ذلك المغامرة بوضع شارع مقابل شارع. وتفرَّج بعضها على «الزعران»، وهم «يخردقون» الاعتصامات في مناطق حسّاسة طائفياً ومذهبياً أو حزبياً.
وعندما دافعت الانتفاضة عن نفسها بقوة، وحافظت على سلميتها واحتمَت بالجيش اللبناني والقوى الأمنية، لجأت قوى السلطة إلى المناورات واللعب على عامل الوقت، لعلّ معطيات تطرأ وتسمح بإنهاء هذه الانتفاضة، كما في التجربة السابقة.
راهنت قوى السلطة على أنّ الانتفاضة مجرد تجربة وستنتهي سريعاً. لكنها تصاعدت. وبعد 3 أيام ناوَر الحريري بورقة «إصلاحات» بعناوين فضفاضة يستحيل تنفيذها. ولأنّ المناورة لم تنطلِ على أحد، اضطر إلى الاستقالة بعد 10 أيام، ولو أنّ شركاءه كانوا يريدونه أن «يصمد» أكثر.
من خلال اتصالاته الدولية، يدرك الحريري أنّ لبنان الذي يغرق مالياً ونقدياً واقتصادياً لن يحظى بدعم القوى الدولية في ظل حكومةٍ تستعيد نموذج حكومته. فحاول تسويق حكومة مستقلّين، ولو ضمن الحدّ الأدنى الذي يرضى عنه المجتمع الدولي. لكنّ شركاءه يعتبرون الطابع السياسي ضماناً لاستمرار نفوذهم في موقع القرار، وهذا هو سبب التعثّر في تأليف أي حكومة جديدة.
من هذه الزاوية، مشكلة دياب لا تختلف عن مشكلة الحريري، وكلاهما عاجزان. وعندما تشبّث دياب بحكومة تكنوقراط، ردّ عليه داعموه بمناورة استدعاء الحريري… فعاد، لكنه سيتهيّب تصريف الأعمال كما يطالبونه، لئلّا يجري «إلباسه» المسؤولية وحده عن الكارثة التي ستنكشف أكثر فأكثر.
وفي الأيام الأخيرة، بدأت تتفتّق أفكار الفريق السلطوي عن خطة جديدة للقضاء على الانتفاضة، تكراراً من طريق الانتخابات النيابية، كما في 2018. وهذا الإغراء يراود كل أركان الصفقة التي تمّت عام 2016، بمَن فيهم الحريري والوزير السابق وليد جنبلاط.
وفي الخلاصة، هناك محاولة جديدة لكسب الوقت والمراهنة على ضرب الانتفاضة بأي شكل، بدلاً من الذهاب مباشرة إلى الحل، أي تشكيل حكومة نظيفة تحظى بالثقة شعبياً ودولياً وعربياً، والتوجّه بجرأة إلى الخيارات الإنقاذية، وفي طليعتها استرداد الأموال المنهوبة وكشف الفساد والفاسدين.
وهنا يظهر عمق المشكلة: إنّ معاندة هذه السلطة الفاسدة لكل محاولات الإنقاذ، وتجاهل صراخ الناس ومحاولات التصدي للانتفاضة الشعبية ومحاولة استيعابها وإسقاطها وإسكاتها، ستقود البلد حتماً إلى كارثة لا مثيل لها في العالم حالياً.
ووجود هذه الطبقة الفاسدة في السلطة هو الذي سيمنع أي مرجعية دولية من التدخل لدعم لبنان ووضعه على سكة الإنقاذ… حتى أنّ أحداً لن يسهّل له حتى التنقيب عن الغاز والنفط، وهو المصدر الوحيد الداخلي الذي يمكن الاتّكال عليه، ولو بعد سنوات.
وفي الأسابيع والأشهر المقبلة، سيغرق لبنان تماماً في نكبات تاريخية. وسيعيش حالاً من الجوع لم يشهدها طوال حربه الأهلية، وهي تذكّره بمجاعة الحرب العالمية الأولى.
وسيكتفي اللبنانيون بالاستماع يومياً إلى عشرات الخبراء في المال والاقتصاد والقانون، وهم يقدِّمون الوصفات الإنقاذية… للمستمعين لا للمسؤولين، ولا أحد يأخذ بآرائهم ودراساتهم، فيما تدور نزاعات على الحقائب «الدسمة» أو كانت كذلك.
سيرتفع منسوب النقمة عند الناس، وسيزداد قهرهم وإحباطهم وجوعهم. وهذا ما يهدِّد الأمن الاجتماعي. فلا أشرسَ من الجائع والمُحْبَط والمذلول. وفي هذه الحال، لن تكون انتفاضة الناس في الشوارع مطلع 2020 كما كانت «ناعمة» في نهايات 2019.
آنذاك، كان الأمل موجوداً، وكان الناس يتوقعون حداً معيّناً من التجاوب مع صرخاتهم وتطلعاتهم إلى الإصلاح. وأمّا اليوم فقد خسر الناس كل شيء: كلَّ ما معهم… حتى الأمل.
في الجاهلية، صنع بنو حَنيفة، القبيلة العربية، صنَماً من تَمر وعبدوه. وذات يوم، عصف بهم الجوع فأكلوه. ويقول العرب: «حَنيفةُ أكلَت ربَّها». هي رسالة إلى الذين عندنا يعتقدون أنهم ما زالوا أصناماً يعبدها الناس وسيعبدونها إلى الأبد.