حازت الاعلامية والشاعرة سحر نبيه حيدر على شهادة الدكتوراه في التاريخ بتقدير جيد جدًا، حول موضوع العنف تجاه المرأة في المجتمع اللبناني عبر التاريخ، اي منذ نشأة دولة لبنان الكبير، وتمت معالجة الموضوع بالاعتماد على الصحافة اللبنانية كمصدر رئيس، وبخاصة جريدتي لسان الحال والنهار. ان غياب استثمار الصحف عن مجمل الدراسات التاريخية التي تناولت التوثيق التاريخي يعتبر خطأ فادح، فكيف تمت مقاربة الموضوع وما الذي ادرجته هذه الاطروحة في مقاربة غير مسبوقةمن خلال اعتماد الدراسة على ارشيف مكنون غير مستغل وهو الصحف المحلية؟!
العنف تجاه المرأة: تأريخ وتحليل!
في القرن الواحد والعشرين، ما زالت المرأة تتعرّض لشتّى أنواع العنف وأشكاله، ذنبها أنّها "أنثى". لا فرق بين مجتمع متحضّر أو بدائي، أو شعب نهج الديمقراطية وارتبط بمعاهدات واتفاقيات تحفظ حقّ الانسان وكرامته.قتلٌ، تعذيب، إغتصاب، إضطهاد، إستغلال، تجارة رقيق، وانتقاص من حقوق ذاك الكائن، الاجتماعيّة والاقتصاديّة والقانونيّة... هيمنةٌ، قلة أمن، أم قلة وعي؟! زد على ذلك تعتيم وتضليل للحقيقة، ولا من يحاسب بجديّة، وبخاصّة حين يعتبر البعض ما يقوم به "مشرًعًا "تحميه الاعراف والتقاليد، في مجتمعات قامت على النّظام البطريركيّ- السلطة الأبوية- حيث "الرجل رأس المرأة" و"الرجال قوامون على النساء"...
طوال القرن المنصرم، قامت العديد من الدراسات والأبحاث، التي تعنى بقضايا المرأة، بشتى تفاصيلها وتنوعها، غير أنّها أهملت أو غاب عنها موضوع العنف المباشر أو غير المباشر، الرائج والمروّج له، في حياة المرأة اليوميّة عبر التاريخ وما زالت آثاره تنعكس على أرض الواقع، من دون محاسبة جديّة وحاسمة، تضع المرأة في دوامة الخوف والقلق، وتكبلُها بعناوين عريضة تحمل صفة الشرعيّة القانونيّة والطائفية، وتدفع بها الى الصمت والاستسلام، بالرغم من الجهود التي تبذلها الجمعيات والمؤسسات الى مواجهة هذا العنف ومناهضته.
من هنا كانت هذهالدراسة المعمّقة، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، أعدتها الاعلامية والشاعرة سحر نبيه حيدروعنوانها" مقاربة تاريخية اجتماعية حول العنف تجاه المرأة في لبنان، من خلال الصحافة اللبنانية، من العام 1920 وحتى العام 1943"، والتي اعتمدت بشكل رئيس،على رصد وتحليل أخبار الصحف اللبنانية وأبرزها جريدتيّ لسان الحال والنهارفيتلك المرحلة المفصلية التي شكلّت ورسمت تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، على مستوى التركيبة اللبنانية بمجمل جوانبها، وأثرت بشكل عام على مختلف أوجه المجتمع والعلاقات الانسانية وبخاصةٍ المرأة، وعززت موقفَها في بعض النواحي. غير أنها قد تكون فعّلت حوادث العنف الممارس عليها، وبخاصةٍ مع وجود جاليات أجنبية وما عكسته على السلوك اليومي للمرأة على مختلف الصعد.
تتمثل إشكاليّة الاطروحة في اعتبار المرأة لحدود العنف وترسيمها له: ما هي الأمور التي تعتبرها المرأة في دائرة العنف الموجّه ضدّ شخصها وكيانها؟ هل تستوي أمور العنف أمورًا مشتركة لدى جمهور النساء بعامّة؟ أين تبدأ حدود الشرف وأين تنتهي حدود الحريّة في اعتبارات الآباء والأخوة والأزواج والأقارب؟
عنفٌ موروث ام ممارسات متأصلة؟!
معالجة موضوع العنف أمر لا يستهان به ، فجرثومة العنف متأصلة في كل كائن بشري منذ قايين وهابيل، اقتتال أخوي لم يجد بعد طريقه الى الحلّ، بل بقي مهمشًا رغم أنه ما زال فاعلًا،لذا كان من المحتّم، العودة إلى الجذور وإلى بدايات تشكّل الكيان اللّبناني، مع كلّ الأحداث المتغيّرة التي حوّلت المسار السياسيّ في لبنان، وبدّلت في أحواله. وتساعد مطالعة أخبار المجتمع بشكل دوري، على ملاحظة أمور تُبرز دور المرأة الظاهري، وتُبطن أمورًا يحكمها العنف الموروث والمروّج له، كظاهرة تشييء المرأة في الاعلان والتصميم على تهميش دورها الرئيس، من خلال نشر بعض الشعارات الواهية التي تنادي الى المساواة، من دون إدراك المعنى الحقيقي لهذه الكلمة الخطيرة التي لا تعني فعليًا المساواة بالمطلق، بل العدل في الحقوق والواجبات من دون تمييز بين الرجل والمرأة، وإسناد الدور المناسب والفعّال لكل منهما، بحسب كفاءاته ومقدّراته العلمية والفيزيولوجية والنفسية. مطالعة الجرائد والعودة الى وسائل الاعلام كافة، يشير الى خطورة ما نحن عليه، فما زالت المرأة تتعرض للاغتصاب والتعذيب والقتل والتمييز الجندري والتهميش المقصود، في ظل غياب المحاسبة الجدية على مختلف الصّعد، وهو أمر لا يجب الاستخفاف به، يُنبىء بانتشار العنف تحت أشكال مختلفة: اضطرابات اجتماعية، شيوع الفوضى والتي تؤدي بدورها الى ممارسات عنفية ظاهرة او غير ظاهرة، وبالتالي عنفٌ عام على صعيد الوطن، وعليه كان لا بد من تقصّي الموضوع بشكل جدي وفاعل والعودة الى الجذور.
تحديد الفترة الزمنية للدراسة
يجد حصر الموضوع في هذه المرحلة من تاريخ لبنان، للحديث عن العنف ضد المرأة، مبررّاته في الجوانب الآتية:
كان التّطور الاجتماعيّ والسّياسيّ للمناطق التي انضوت في الكيان اللبنانيّ العام 1920، متفاوتالأوجه والمستويات. فجبل لبنان مثلاً، كان على علاقات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة راجحة، بمراكز السّياسة والاقتصاد في أوروبا. بالاضافة الى وجود الارساليات التبشيرية والتعليمية التي منحته بعدًا ثقافيًا وفكريًّا أكثر امتدادًا واتّساعًا. انعكس تبدلاً في اجتماع المرأة وسلوكياتها اليومية.(زراعة التوت وتجارة الحرير)
بالمقابل، ظلت باقي المناطق اللبنانيّة، التي ألحقت العام 1920 بلبنان الكبير، كما يرى بعض اللبنانيين، أو أعيدت إلى لبنان، كما يؤكد البعض الآخر، في سيرورة سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، إما مغايرة أو مجانبة، لما كان الأمر عليه في جبل لبنان. فالمدن الساحليّة: بيروت وطرابلس وصيدا، والمعمورة بالأكثريّة من سكانها بمسلمين سنّة، ظلّت ولمرحلة سنوات من إعلان دولة لبنان الكبير ( 31 آب 1920)، على ولاءاتها العثمانيّة السّابقة، من حيث التطّلع السّياسي، ومن حيث الارتباط الاقتصاديّ، وكذلك، وهذا هو الأهمّ بالنسبة لمشروع البحث هذا، من حيث العلاقات في داخل عناصر البنية المحليّة أو في علاقات الاجتماع مع باقي البنى في خارجها.أمّا باقي المناطق التي كانت تُعرف بالأقضية الأربعة، والمعمورة بأكثرية شيعيّة إلى جانب أقليّات سنيّة ومسيحيّة، فقد لبثت على مسافة بعيدة عن المؤثّرات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة والتعليميّة، التي كانت تدور في باقي المناطق اللبنانيّة. أي أنها ظّلت بعيدة عن النشاط الإرسالي التعليميّ، وبعيدة بالتالي عن مراكز الفعل الخارجيّة من أوروبيّة أو عثمانيّة.
وهذا العام 1920 كان عام بداية " حصر " مجمل المتّحدات اللبنانيّة، بهيئاتها المتغايرة السّابقة، في إطار سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ وثقافيّ " لبنانيّ " واحد. بحيث تكون هذه المتّحدات، بدءًا من العام 1920، في طريقها الدائم إلى إنتاج هيئةٍ اجتماعيةٍ وطنيةٍ لبنانيّة، لها من شروط التوحيد والتّشارك، أكثر مما يغذّيها من مظاهر الاختلاف والتناقض. أمّا العام 1943، فهو العام الذي أكملت فيه السكّة السّياسيّة طريقها إلى محطّتها " اللبنانيّة " الأخيرة، مع استقلال لبنان العام 1943، جمهورية معترفاً بها كاملة الأوصاف. لتبدأ، من بعد، مسيرة المرأة اللبنانيّة في واقعٍ اجتماعيّ إنسانيّ جديد.والأمر اللافت في تلك الحقبة هو التطور الكبير في لحظ دور المرأة في المجتمع والتشديد على أهمية تعليمها وتثقيفها، لكي تكون شريكة ناجحة تساند الرجل وتعضده في بناء المجتمع.
مهمة شاقة وبحث شيّق
رصد الأخبار وتحليلها يحتاج الى صبر وحنكة وتروّي كيما يكون التحليل موضوعيًا. ومعالجة موضوع العنف تجاه المرأة أمر غير مستحدث لكنه موضوع شاق وشائك لما فيه من التكتم والغموض والمماطلة. كما يحتاج الى تقصّي دقيق للاخبار الماضية ومتابعة الأخبار الحالية، والغوص فيه يحتاج الى جهد فريق عمل متكامل. غير ان الجديد في هذه الاطروحة يعود الى سبر أغوار الجذور المتأصلة للعنف في المجتمع والتي ما زالت تفعل وتفعّل موضوع العنف تجاه المرأة. وتجدر الإشارة إلى نقطة رئيسية حول المعطيات الصحفية الواردة في حينها، والتي رغم دقتها تبقى قاصرة عن توصيل صورة كاملة عن حوادث العنف ضد المرأة اللبنانية، وذلك لسبين اثنين: الأول، ويتمثل بأن قسمًا لا بأس به من الحوادث، كانت تبقى مطوية جرّاء لملمتها من قبل الأهل سترًا للفضيحة والسبب الثاني، ويتمثل بعدم قدرة الصحافة على تغطية الحوادث في مختلف الأراضي اللبنانية، إما لعدم القدرة على إيجاد المراسلين المعتمدين، وإما قصورًا في وسائل الاتّصالات والتوصيل اللازمة.
صورة عامة حول الدراسة
عرفت بيروت في هذه المرحلة، ما يفترضه هذا التقدم الاجتماعيّ والعمرانيّ من تنظيمات وقوانين، وكذلك كلّ ما كانت تطلع به التطوّرات العلميّة، لكنّه لم يكن خافيًا ما كان يدور فيها من ارتجاجات في الاقتصاد والإدارة والأمن ، كانت تضرب استقرار الإدارات والمؤسسات، رسميّة كانت أو أهليّة. تبويب معطيات العنف في المحافظات، وجدولتها على الصّعيد الوطنيّ العامّ، اشار الى أنّ محافظة بيروت احتلت النسب الأعلى في مجمل حوادث العنف ب 17959 حادثة، من أصل مجموع حوادث العنف البالغة 61525.
أمور عديدة تناولتها الاطروحة كتعريف وتفصيل اشكال وانواع ومحددات العنف، وسلطت الضوء على الحوادث العنفية المختلفة التي وقعت ضحيتها المرأة، وابرزها القتل، والضرب، والاغتصاب، والتحرش، والخطف...
إن ارتكاب جريمة الإغتصاب والعنف الجنسي قد يقع كأحد أشكال الهوية الذكورية، أو لأسباب إجتماعية أبرزها عدم القدرة على الزواج في ظل تدهور المستوى المادي والمالي، أضف اليها العادات والتقاليد الصارمة التي تجبر الفتاة على الالتزام بالصمت خوفًا من القتل.وقد احتلت العاصمة بيروت النسبة الأعلى لحالات الاغتصاب ولأسباب ابرزها: اكتظاظ المدينة ووجود عدد كبير من الاجانب مثل المصريين والارمن والسوريين والأكراد وغيرهم وتوفر سبل اللهو المسهلّة لهذا النوع من العنف: الأندية الليلية وبيوت الدعارة وغيرها. كذلك حوادث الإنتحار وأسبابها متعددة فمنها اجتماعي كالعنوسة والعقم ومنها جنسي: التعرض للاغتصاب أو علائقي هجر الحبيب وخلافه.
أشارت الصحف الىشيوع حالات الفوضى والتفلت الامنيفي تلك الحقبة،وارتفاع حوادث السرقة في مختلف المناطق اللبنانية،كذلك وجود أعداد كبيرة من النور وانتشار حالات تهريبٍ وعمليّات تزييف وتزوير،وإشهار سلاح، بالرغم من محاولة ضبط الأمن، بخاصةٍ ما يتعلق بتنظيم أحوال الأرتيستات والراقصات والدعارة المقوننة، هذا الأمر انعكس بطريقة سلبيّة على سلوك المرأة وعلى كيفية تقبل الرجل والمجتمع لهذه المتغيرات التي انعكست حتى على طريقة التعامل مع المرأة على مختلف الاصعدة.وزاد اضطراب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيةوالسياسية الامر سوءًا كما ان تدهور الوضع الزراعي أجبر المرأة على الخروج قسريًا للعمل (خدمة المنزل، والعمل في المقاهي والمحال التجارية) ودفع البعض، إلى ممارسة العنف بشكل فاضح، وتفشي ظاهرة البغاء السري والعلاقات المشبوهة ونتيجتها الطبيعية أطفال غير شرعيين.
استنتاجات
بعد القيام بتحليل الاخبار ونقدها بشكلٍ موضوعي وممنهج تبين التالي:
1- لا توجد علاقة مباشرة بين الانتماء الطائفي والتصرّف العنيف:قد يستخدم البعض الغطاء الشرعي ليشرّع سلوكه تجاه المرأة غير ان هذا الغطاء الطائفي ليس بالضرورة هو السبب.
2- لا علاقة مباشرة بين المستوى العلميّ والحوادث العنفيّة.
3- هناك ارتباك في عملية التنشئة الاجتماعيّة، وتأثير العادات والتقاليد والتربيّة البيتيّة على بعض الأعمال العنفيّة
4- غياب الرادع القانونيّ الصّلب والحازم، وغياب المحاسبة القانونيّة الشاملة غير المسيّسة فعّل حوادث العنف وسمح بالتمادي والتسلّط على العنصر الاضعف.
5- التمييز الاجتماعيّ الفاضح وشيوع بعض التشريعات غير المنصفة،كذلك غياب التربية المواطنيّة والوعيّ الثقافي ساهم في تسلّط الرجل على المرأة، كذلك تسلّط المرأة على المرأة، وعلى انجرار المرأة خلف التقليد الأعمى من دون مسوّغ.
6- عدم احترام المرأة لشخصها والتزامها بالصمت، سمح بالتعرّض لها، من دون اعتراض منها، وهذا ما نسميه"مفهوم الجرصة والعيب والفضيحة".
خلاصة
إنّ توزّع المجتمع اللبنانيّ على منصّات سياسيّة وثقافيّة ودينيّة متعدّدة، يجعل مهمة رصد تحوّلات العنف ضدّ المرأة مهمّة فريق عملٍ، أكثر مما هي ثمرة جهد شخصيّ فرديّ، إذ مهما كانت الطاقة الموظّفة من قبل باحثٍ لرصد مختلف أوجه جوانب مثل هذا البحث، فإن امتداد المجتمع اللبنانيّ، بطوائفه ومكوّناته يجعل ثمرة أيّ مجهود فرديّ دون حدود اكتمال العمل وشموله.ومما لا شك فيه ان أشكال العنف متنوعة ومختلفة ومنها ما هو غير منظور ويعتبره البعض امر طبيعي لا يجب الوقوف عنده او محاسبة المعتدي، إذ لا يقف استعمال العنف عند حدود استعمال السلطة، بل يتعداه الى أمور كثيرة غير مبررة، لا علاقة للمرأة بها وإن كانت جميلة أو صغيرة أو مرحة أو ترتدي زي قصير فهذا الامر متعلّق بحريتها الشخصيّة ولا يجب اعتباره ضمن لائحة الاستفزازات المبررة لاي تصرّف عنيف.وقد قامت حملات كثيرة وطنية وعالمية، وما زالت تتابع المسار بهدف مناهضة العنف والتمييز الواقع تجاه المرأة، لكن الاجدى معالجة المشكلة من الجذور، من خلال التربية على احترام الآخر وعدم المسّ بكرامته والتعدي على خصوصيته وخياراته والحرص على وضع قوانين للمحاسبة الجديّة وتشريعات تحمي حقوق الانسان الفرد من دون تحفّظ.
ان البحث في مسألة العنف عمومًا وتجاه المرأة تحديدًا، مسألةٌ تحتاج الى جهدٍ جماعيّ، كي نصل الى حلول ناجعة، تساهم في بناء وطنٍ معافى، جناحيه "رجلٌ وامرأة".على أمل أن تضيء هذه الدراسة مشكاةً تنير الدّرب لمن سعى الى مساندة الحقّ، وتعبّد الطريق للباحثين الجادّين في شؤون المرأة بهدف وضع خطط جذرية وفاعلة تصبّ في خدمة مجتمعاتنا العربية.