منذ انطلاق التحرّكات الشعبيّة الناقمة على الطبقة السياسيّة في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، حاول "تيار المستقبل"، وخصوصاً رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، تصوير نفسه في "صفّ الناس"، بخلاف معظم الفرقاء الآخرين.
لم يتأخّر الرجل في تقديم استقالة حكومته، في خطوةٍ كان يدرك أنّها ستثير "غيظ" حلفائه وشركائه، وصولاً إلى حدّ إنهاء العمل بـ"التسوية الرئاسية" التي طبعت السنوات الماضية، ولكنّه أراد من خلالها القول إنّه لبّى مطالب الحراك الشعبيّ، ولو على حسابه.
بعد ذلك، مضى الحريري في مواجهة الطبقة السياسيّة وصولاً إلى حدّ "استعدائها"، متبنّياً مطالب الحراك وكأنّها مطالبه، خصوصاً لجهة التمسّك بحكومة "تكنوقراط" خالصة، موحياً بـ "زهدٍ" شخصيّ، وترفّعٍ عن المنصب في حال عدم تلبية هذا الشرط.
شيئاً فشيئاً، تبدّد هذا "الزهد"، ليعلن الحريري "شبه اعتكاف" بعد تكليف حسّان دياب رئيساً للحكومة، قبل أن يعود في اليومين الماضيين، باستراتيجيّة جديدة ضربت الحراك الشعبيّ نفسه في العمق، تارةً عبر تغطية "قمع" المتظاهرين، وطوراً عبر رسم "خطوط حمراء" هي في أساس مطالبهم وصرخاتهم.
فما سرّ "الانقلاب المستقبليّ" على الحراك، الذي كان في مرحلةٍ من المراحل من "أشرس" المدافعين عن أدائه، وحتى عن أساليبه المثيرة للجدل، على غرار قطع الطرقات وإحراق الإطارات؟!
"خيبة أمل"
ليس سراً أنّ "تيار المستقبل" شعر، مع انطلاق الحراك الشعبيّ في تشرين الأول الماضي، بأنّه يتماهى معه بشكلٍ أو بآخر، وهو ما دفع الكثير من "المستقبليّين" إلى الالتحاق بصفوفه وساحاته، حتى قبل تقديم رئيس الحكومة لاستقالته، لاعتقاد هؤلاء أنّ هذا "الحراك" سيحرّرهم من تبعاتٍ ثقيلةٍ أفرزتها "التسوية الرئاسيّة"، وجعلت الحريري "مقيَّداً" و"مُكبَّلاً" في مكانٍ ما.
ولعلّ ما عزّز هذا "التماهي" إن جاز التعبير، الانطباع الذي تولّد لدى كثيرين، من أنّ "الحراك" الذي رفع شعار "كلن يعني كلن"، كان يصوّب عملياً على وزير الخارجية جبران باسيل أكثر من غيره، ومن خلاله على "العهد" الذي لم ينجح في الإيفاء بالوعود التي قطعها للبنانيين، في مقابل "تحييد" الحريري بشكلٍ أو بآخر، خصوصاً بعد استقالة الرجل، مع أنّ الأخير يبقى ثابتة من "ثوابت" النظام اللبناني، منذ ما قبل عودة الرئيس ميشال عون إلى البلاد من منفاه أصلاً.
لكلّ هذه الأسباب، كان رهان "المستقبليّين" على الحراك كبيراً، وهو ما دفع الحريري إلى "التصلّب" في مواقفه، معتقداً أنّه بذلك يستطيع استمالة المتظاهرين، وصولاً إلى حدّ تصنيفه وكأنّه "صوت الثورة"، إلا أنّ ذلك لم يحصل، بل إنّ "خيبات الأمل" بدأت مع الحديث عن الاتفاق على الحريري كمرشّحٍ "وحيد" لرئاسة الحكومة، بـ"مباركة" دار الإفتاء. هنا، كانت المفاجأة بوصول التظاهرات إلى محيط دارة الحريري في بيت الوسط، مع إطلاق هتافاتٍ رافضةٍ لإعادة تكليفه، باعتباره جزءاً من النظام الذي ينتفض اللبنانيون في وجهه.
ومع أنّ الحريري انسحب قسراً من السباق بسبب تخلّي القوى المسيحيّة عنه، وليس تحت ضغط الشارع، فإنّه لم يتردّد في "توظيف" هذه الخطوة أيضاً في سياق استماعه لصوت الناس، "مراهناً" مجدّداً على أنّ الشارع سيطيح بأيّ "طامحٍ" غيره، لتأتي "خيبة الأمل" الكبرى بالنسبة إلى الشارع "المستقبليّ"، مع الاتفاق على اسم حسّان دياب مرشحاً لرئاسة الحكومة. هنا، وجد "المستقبليّون" أنفسهم وحيدين في الشارع، بعدما انكفأ الآخرون، وارتأوا منح دياب "مهلة سماح"، متجاوزين حتى طريقة وصوله إلى السلطة، كمرشحٍ لأحزاب "اللون الواحد"، وهي الأحزاب التي رفضت للمفارقة مطالب المتظاهرين منذ اليوم الأول، وأقصت الحريري لهذا السبب!.
خطوط حمراء!
على امتداد الفترة الماضية، كانت "خيبة أمل" جمهور "تيار المستقبل" من الحراك أكثر من واضحة، ولو حاول إخفاءها الكثير من قياديّيه الذين أبقوا على دعمه افتراضياً ونظرياً، "خيبة أمل" كان يعبّر عنها هذا الجمهور الذي وصل الأمر ببعضه إلى حدّ نعي "الثورة" التي تبيّن أنّ هدفها الوحيد كان إقصاء الحريري، بدليل "انكفائها" بعد خروجه من الحكم، وترك الساحات من دون تحقيق أيّ من مطالبها.
وفي حين تعزّزت "خيبة الأمل" هذه مع التعرّض لبعض وجوه "المستقبل" في الأماكن العامة، على غرار رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، والنائب السابق أحمد فتفت، وصولاً إلى النائبين سامي فتفت وطارق المرعبي أخيراً، فإنّ تجدّد "الحراك" في الساحات قبل يومين ترك انطباعاتٍ متباينة في صفوف "المستقبليين"، الذين استبشروا به خيراً للوهلة الأولى، لعلّه ينجح بالإطاحة بحكومة اللون الواحد، قبل أن يصبحوا في "صلب المواجهة" معه، بعد تصويبه على المصارف.
ولعلّ البيان الذي أطلقه الحريري، معطوفاً على "دردشاته" المتتالية مع الصحافيين خلال اليومين الماضيين، يشرح الكثير عن "الانقلاب" الذي حصل، فالرجل الذي كان من الطبيعي ربما أن يرفض مظاهر الاعتداء والتخريب، ذهب بعيداً ليس فقط في توفير "الغطاء" لقمع المتظاهرين بأيّ ثمنٍ، ولكن أيضاً في رسم المزيد من "الخطوط الحمراء"، بدءاً من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي كان منذ انطلاق الحراك من "الأهداف المعلَنة" للمتظاهرين، وصولاً إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، متحدّياً من يودّون إقالته، متسائلاً عمّا إذا كان "حبّة أو حبّتين".
وإذا كان لافتاً أنّ الحريري لم يُبدِ أيّ "تعاطفٍ" مع المتظاهرين الغاضبين، بمُعزَلٍ عن أفعالهم، بل إنّ الوزراء المحسوبين عليه اكتفوا بتمني الشفاء للجرحى من الأمنيين والإعلاميين دون غيرهم، في مفارقةٍ تكاد تكون مستفزّة لكثيرين، فإنّ وجهة النظر "المستقبلية" تدحض فكرة "الانقلاب"، لتحمّل من تصفهم بـ "المدسوسين" مسؤوليّة الانقلاب، وتدعو المتظاهرين السلميّين إلى التصدّي لهم. ويعتبر "المستقبليّون" أنّ الموجة الثانية من التظاهرات التي انطلقت هذا الأسبوع لا تشبه تلك التي انطلقت في تشرين الأول الماضي، بل تذهب لتبنّي شعار "ثورة سرقها الزعران" الذي كان أطلقه "عونيّون" على وسائل التواصل سابقاً، ولكن في الاتجاه المعاكس، لتقول إنّ هناك من تسلّل إلى التظاهرات ليحرفها عن مسارها، وأنّ هؤلاء معروفوالانتماء، وقد عبّروا عنه بصراحةٍ ووضوح عبر الشاشات، وعلى الهواء مباشرةً.
كأنّ شيئاً لم يكن!
يرفض "المستقبليّون" القول إنّهم "انقلبوا" على الحراك، ويصرّون على أنّ "الانقلاب" حصل من داخل الحراك، خصوصاً مع تطوّع كثيرين من المحسوبين عليه لتغطية مظاهر الاعتداء والتخريب التي طالت المصارف في مناطق حيوية من العاصمة.
لكن، في مقابل وجهة النظر هذه، ثمّة من يعتبر أنّ "المستقبل" يقع، على غرار غيره من الأفرقاء، في "فخّ" تصنيف الحراك وفقاً للهوى، فعندما يكون مصوَّباً على الخصوم، يكون وطنياً شريفاً، وعندما يتحوّل إلى الحلفاء، يصبح خائناً وعميلاً.
بيد أنّ الأهم، كما يقول الكثير من المتظاهرين، أنّ "الثورة" التي سعى الحريري يوماً للالتحاق بصفوفها، قامت على أساس إنهاء "تقديس" الأشخاص، ونبذ كلّ "الخطوط الحمراء"، الخطوط نفسها التي يسعى الرجل لتكريسها وتمجيدها اليوم، وكأنّ شيئاً لم يكن...