قد تختلف مع السيّد البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي على اتّجاهاتٍ اتّجه إليها، وقد لا تفعل. قد تنسجم معه في مواقفه الوطنيّة، وقد لا تفعل. قد تُثمِّن طروحاته، وقد لا تفعل. ولا مَلامة عليك في ذلك البتّة، طالما أنّ الأمور تبقى في دائرة النّقاش النّظيف الذي يتعارض فيه فكرٌ صريح مع عقلٍ صحيح. وفي جميع الحالات أمرٌ مقبول ألا يكون فكرٌ متّسِقاً مع فكر، وموقف على انسجامٍ مع موقف، وتَوجّهٌ على تَماسٍ مع تَوجُّه. ولكن ما ليس مقبولاً على الإطلاق، هو هذا الإنحدار الدّاعر في التخاطب الذي يأتي به أقزامٌ مُتعَملِقون مُتحاذقون يدّعون المعرفة والحصافة والنّباهة، وهُم خُدّام السّلاطين ليس إلاّ.
من يتوجّه إلى السيّد البطريرك، كائناً مَن كان هذا البطريرك، عليه أن يَزِينَ كلامه بميزان الذّهب لا بميزان التّبن. وعليه أن يرجع إلى أساسات البيت البطريركيّ الذي يمتدّ عميقاً في التّاريخ، والمبنيّ على الصّخر لا على الرّمل، الذي يحجب بعَجَاجه الرؤية السّليمة فيؤثِّر على سلامة الأحكام. وعليه أيضاً أن يُدرِك جيّداً قبل أن يَقطش ويُسَيِّل غُثاءه هنا وهناك، وقبل أن يَتَوَتَّر ويُتَوْتِر على غير هُدى، فيُضحي المغرور أُضحوكة الجميع، ان مُخاطبة الكبار لا يُمكن أن تتمَّ على قاعدة أنّ "كلّه عند العرب صابون". وعليه كذلِك أن يكون على بيّنة من أمرٍ وهو أنّه ليس بإمكان الرّعاع فُوَيْسِقوا المجتمع أن يُخرِجوا قُطاشَهُم وأضغانهم وأسوأ ما فيهم، ويطرحونه على غيرهم لكي يُطَربَشهم سلاطينهم.
وعندما يتكلّم السيّد البطريرك يا نِدامُ، يبني كلامه على ثوابت اعتمدها البطاركة الموارنة في مقاربتهم للأحداث الدينيّة والدّنيوية وفي علاقتهم مع إخوتهم المسلمين، لا على السّراب والهباء. وهذه الثوابث قائمة على أسُسٍ ثلاث: العيش المُشترك والميثاق الوطني والصّيغة. وثوابت البطريرك الرّاعي هي ثوابت الكنيسة المارونيّة المُستمرّة من بطريرك إلى آخر، والتي نسجوها مع إخوتهم المُسلمين في هذا الوطن الذي التقت فيه الدّيانات على مشروعٍ حضاري قائمٍ على الحريّة والمساواة في المُشاركة وحفظ التّعدّدية، حتّى ولو شابته شائبة في فترة من الفترات. والبطريرك الماروني ضنينٌ على هذا التّاريخ وعلى هذه الثّوابت وعلى هذا المشروع الحضاري وعلى المُسَلّمات الوطنيّة كلّها، وذلك بغضّ النّظر عن الأثقال التي يحملها والأثمان التي يدفعها في شخصه وصيته، وعن الضّغوطات الجسديّة والنفسيّة والمعنويّة التي يتعرّض لها من الأقربين والأبعدين، ومهما أرعَد وأزبد المُتزلّفون واشتكى الشّاكون، وبالطبع تَوْتَرَ الأقزام المُتعَملِقون.
أتى البارحة مَن توجّه بالنّقد الدّاعر لرأس الكنيسة المارونيّة، وأتى اليوم مَن قام بِما قام به فُوَيسِقو (تصغيرا لكلمة فاسق) البارحة، وسيأتي غداً مَن سيفعل الفعل نفسه، ولكن ذلِك لن يُفسِد للودّ قضيّة، ولن يزيد البطريرك سِوى إيماناً وصلابة في مواقفه وفي رؤيته الوطنيّة التي تُسهم وتدفع باتّجاه بناء دولة الحقّ القائمة على أُسس العدالة والحريّة والمساواة والمشاركة. وما سيبقى للتّاريخ هو هذه المواقف الرؤيويّة القادرة وحدها على أن تبني وطناً جديراً بأبنائه ولائقاً بمواطنيه.
وفي المُحصّلة، ثمّة فرق كبير بين المواقف والآراء، على كلّ مُتَوتِرٍ ومُدلٍ برأيه أن يفهمه قبل الكتابة والتَّوتَرَة؛ فالبطريرك المارونيّ يقف مواقف ولا يرتأي آراء، والفرق بين المواقف والآراء، أنَّ الأولى تفترضُ رجالاً رُؤيويّون يعرفون الحقّ ويرون الطريق التي يجب أن يسيروا ويُسيّروا عليها، أمّا الثانية فَعَلى رأي المثل القائل "متل الـ... على الـ..."، والسّلام.