في زحمة تسارع الأحداث في منطقتنا وتسابق القوى العظمى والصاعدة على حقول النفط والغاز في البرّ والبحر لتأمين مستقبل الطاقة في بلدانهم، يصعب على المرء أن يفسّر كثيراً من الظواهر التي تبدو بعيدة عن هذه الأهداف ولا تشترك معها في الشريحة أو الأسلوب أو الطريقة. في مثل هذا الوقت لا بدّ أن نتذكر أن نقرأ كلّ ما يجري بعقل واعٍ وبحكمة، وأن نبعد أنفسنا بعض الشيء عن الصخب الذي يسببونه عن قصد مستخدمين كلّ الوسائل كي ينشغل معظمنا بصغائر الأمور، متناسين الأهداف المرسومة لنا. حدثان هامّان ومتزامنان لفتا انتباهي وسوف أذكر إلى جانبهما أحداث أخرى في السياق. الحدث الأول هو بيان جامعة البولي تكنك (أو الجامعة التكنولوجية) في إيران؛ وهو أنّهم ضدّ الامبريالية والاستكبار ولكنهم ضدّ الحكم الإسلامي في إيران، وأنهم لم يعودوا بعد اليوم يقبلون أن يتمّ إسكات أصواتهم ضدّ الطغيان الداخلي من خلال اتهامهم أنّهم عملاء للإمبريالية والاستكبار، فهم يرفضون هذا ويرفضون ذاك. وأعتقد أنّ هذا البيان يحمل استراتيجية أو بذور استراتيجية جديدة تفتّقت عنها أذهان واضعي خطط تدمير بلداننا ممن يستهدفون شعوبنا المنهكة بحروبهم المتواصلة علينا منذ مائة عام بعد أن مكثوا الوقت الكافي يدرسون الحالة الاجتماعية في بلداننا، ويشخّصون العقبات التي حالت دون نجاحهم في التمكّن من تفتيتها، ومحاولة اجتراح الأساليب التي تزعزع الحالة المجتمعية من الداخل وتمكّن أدواتهم من الخونة والعملاء المندسّين من النجاح في تنفيذ مخططاتهم والتي في النهاية وبعد زعزعة هذه البلدان ستصبّ في سيطرة القوى الاستعمارية من جديد على مقدّرات بلداننا. إذ أنّ هؤلاء أنفسهم، والذين يعلنون أنهم ضدّ الاستكبار وضدّ الحكم في بلدانهم، سيستهدفون الحكم أولاً وأخيراً وإذا ما تمكّنوا منه سيكونون خدماً طيّعين للاستكبار، كما يشهد التاريخ على أحداث كثيرة مشابهة وفي بلدان عدّة. بالتزامن مع هذا البيان في إيران موّل الاتحاد الأوروبي اجتماعاً في برلين لمن أسموهم "وجوه مجتمعية سوريّة" من طوائف وشرائح متعدّدة من سورية، أي على أساس تقسيم وتجزئة الشعب السوري بعد صمود الدولة السورية بما يشبه المعجزة بفضل صمود وتضحية الآلاف من شبابنا بحياتهم دفاعاً عن سورية في وجه كلّ هذا الإرهاب المموّل والمسلّح، وعلى مدى تسع سنوات عجاف، وبعد أن عرف القاصي والداني أنّ من تبنّوهم من معارضات "فنادق استنبول" لا يمثّلون أحداً في سورية، لجأ مستهدفو سورية إلى استراتيجية جديدة ألا وهي اختيار شخصيات عملوا يوماً في الدولة السورية، أو كان لهم مراكز بها، ممّا يعطيهم في رأيهم بعض الصدقيّة وإنّ هؤلاء "وجوه سوريّة مجتمعية" أو ما يسمّيهم البعض من النخبة، ولا تستطيع حتى الدولة أن تنكر ذلك بما أنها اختارتهم في الماضي سفراء لها، أو قبلت بهم كمشايخ عشائر أو وجوه مقبولة في مجتمعاتهم، وبهذا فهم يحاولون أن يقدّموا للمواطن السوري نماذج لها بعض الحيثيات المجتمعية، علّهم يطهّرونهم من رجس التعامل مع الأجنبي والخيانة لبلدهم، ومن ثمّ يدفعون لهم وبهم لتنفيذ أجندة السيد الإسرائيلي عبر حلفائه الأوروبيين الذي اختارهم وموّلهم وعقد لهم الجلسات ليعلّمهم أصول التبعيّة وإعادة صياغة علاقتنا كما يريد هو ويشتهي وبما يضمن سيطرته الدائمة علينا ونهب ثرواتنا واستعباد شعوبنا، وفي السياق طبعاً يضعون أسس التفكّك الطائفي والعرقي والعشائري تماماً كما فعلوا في العراق واليمن وليبيا والسودان. فهؤلاء يجتمعون في برلين ليس بوصفهم مواطنين سوريين، بل بوصفهم سنّة وعلويين ودروز وعشائر ومسيحيين تقدمة إذا ما تمكّنوا، لا سمح الله، لوضع هذه الأسس الهدّامة، والتي تصبح العقبة الكأداء في بناء دولة المواطنة. والمثالان الآخران اللذان أريد ذكرهما أيضاً هما العراق ولبنان حيث نجد اليوم عراقيين يحطّمون مقار الحشد الشعبي الذي بذل الدماء رخيصة ليحمي العراقيين من جرائم الإرهاب الداعشي، ويعلنون أنهم ضدّ الاحتلال والاستعمار ولكنهم في الواقع ضدّ بلدانهم أولاً وأخيراً، فهم يستهدفون فعلاً من قاتل من أجل تحرير العراق من الإرهاب، ومن أجل العودة به إلى استقلال قراره الحقيقيّ. والصعوبة الأساسية التي تواجه كلّ العراقيين الوطنيين الذين يبذلون جهوداً دؤوبة لإرساء حكم وطني مستقلّ هي الدستور الذي وضعه بريمر وزملاؤه في العراق على أسس طائفية وعرقية، بدلاً من كونه دولة للجميع. وهذا السيناريو بالذات هو استراتيجيتهم الجديدة بالنسبة لإيران وسورية، خاصة وأنّ كلا البلدين يفخران بالعيش المشترك لكلّ من ولد على هذه الأرض منذ آلاف السنين. والمثال الأخير الذي أودّ أن أسوقه بحذر هو لبنان؛ فقد رأينا التظاهرات السلمية و"الحضارية" مع المطربين والمطربات، والتي كما قالوا أنها وطنية المنشأ مئة بالمئة، ولا علاقة لأحد بها، ولكنها إلى حدّ الآن ألحقت أضراراً وشللاً في الوضع العام وتتحول إلى أعنف وأعنف كي يصفى للكيان الصهيوني الجوّ فينقّب في البحر ويستخرج النفط والغاز، بينما تنشغل الدولة اللبنانية بمحاولة تجميع القوى والجهود المخلصة لإعادة الأمن والاستقرار وإعادة دورة الحياة إلى مسارها الطبيعي والمنتج للجميع.
الاستنتاج هو أنهم في الوقت الذي يخلقون لنا أحداثاً يومية وحروباً داخلية خارجة عن إرادتنا يستنزفون بها طاقاتنا ومواردنا وحتى لقمة عيشنا، هم في الوقت ذاته يستنبطون رؤى واستراتيجيات جديدة نابعة من فشل سيناريوهاتهم السابقة. صحيح أنهم لا يعترفون بالخطأ لنا، ولكنهم يقرّون لأنفسهم فشل خططهم وينتقلون لوضع استراتيجيات جديدة تحاول أن تصل الأهداف التي لم يتمكّنوا من تحقيقها في المرّة أو المرّات السابقة. فقد احتلّوا العراق في العام 2003 واعدين أن يصبح الأنموذج الذي ينشر عدوى الديمقراطية في العالم العربيّ برمّته، ولكنّهم فشلوا وأصبح مثلاً عليهم وليس لهم. وخاضوا حرب 2006 آملين أن يضعوا حدّاً وإلى الأبد لصورة وحضور المقاومة، لكنّهم فشلوا. ثمّ بدؤوا بالربيع العربي وبرهن لهم الزمن أنّ الصخرة التي تنكسر عليها مؤامراتهم هي سورية، وأنّ سرّ هذه القوة هو العيش المشترك والتضامن المجتمعيّ ووحدة البلد مع قائده. وانسحبوا من الاتفاق النووي الإيراني آملين أن تنهار إيران بين عشيّة وضحاها، فوجدوا أنّ مئات الملايين تزحف لتأبين من كان قائداً ميدانياً في مكافحة الإرهاب على مستوى المنطقة وليس على مستوى إيران فقط. بعد كلّ هذا من الطبيعي أن تنشغل مراكز أبحاثهم باختراع استراتيجيات جديدة تنتقل من الفشل دون أن تعلن عنه محاولة تجريب وسائل أخرى لتفتيت مجتمعاتنا من الداخل، والاستمرار في استنزاف دولنا إلى أن يسلّموا بها حكومات عميلة تسهّل عليهم عملية نهب ثرواتنا واستعبادنا بما يخدم أهدافهم. علينا التصدّي بوضع استراتيجيات مقابلة وقادرة وكفيلة بتقويض أساليبهم قبل أن تأخذ مداها لدى المتعاونين معهم أو المضلّل بهم حماية لبلداننا ومستقبل أطفالنا. إنها معركة رؤية واستراتيجية وفكرية قبل أن تنتقل إلى الأرض والناس وعلينا أن نضع الخطط البديلة لتحفظ وحدة وقوة أوطاننا ونزيدها تحصيناً من الداخل.