لطالما كان "حزب الله" يحرص على توسيع مروحة حلفائه وتنويعها، بحيث تشكّل رداً على كلّ "الحملات" التي يتعرّض لها، والتي ترتدي زياً طائفياً مذهبياً قد لا يكون محبَّذاً بالنسبة إليه، خصوصاً في ضوء الصراعات الساخنة التي تشهدها المنطقة.
وانطلاقاً من نقطة "القوة" المفترضة هذه، كان "الحزب" يتعامل مع مختلف الاستحقاقات التي يواجهها، وآخرها استحقاق تشكيل الحكومة، التي صُنّفت سريعاً في بعض الأوساط السياسية بأنّها حكومة "اللون الواحد"، أو حتى حكومة "حزب الله".
ظنّ كثيرون أنّ الأمر سيكون يسيراً وسهلاً على الحزب الذي لديه من "المونة" على حلفائه ما يكفي لتسهيل ولادة الحكومة بسرعةٍ قياسيّةٍ تُظهِر الحرص المطلوب على البلد في لحظةٍ دقيقةٍ كالتي يمرّ بها حالياً، فيما الانهيار وشيك، والفوضى عامّة.
لم يحصل شيءٌ من ذلك، فتأخّرت ولادة حكومة "الحلفاء"، مثلها مثل حكومات "المتخاصمين"، تارةً بسبب حصّةٍ من هنا، وطوراً بسبب وزيرٍ مفترضٍ من هناك، ما وضع "الحزب" في قفص الاتهام، ودفع كثيرين لطرح سؤالٍ جوهريّ، هل فعلاً يريد "الحزب" ولادة الحكومة؟!.
"مهزلة" التأليف!
منذ اليوم الأول لتكليف حسّان دياب تأليف الحكومة، يصرّ "حزب الله" على ثابتةٍ شبه وحيدة في العَلَن، تتمثّل في الدعوة إلى الإسراع في تأليف "أيّ حكومة"، بمُعزَلٍ عن شكلها ولونها وحجمها، لتتصدّى سريعاً لمهمّة الإنقاذ، حتى أنّ قياديّيه أوحوا في تصريحاتهم بتنازل الحزب عن رفضهم لحكومة "التكنوقراط" التي كان ينادي بها خصومه.
لكن، في مقابل كلام "الحزب" العلنيّ، كلامٌ آخر من "الحلفاء"، وسط "نشر للغسيل" على الهواء مباشرةً، تارةً على شكل الحكومة بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" الوزير جبران باسيل، وطوراً على حجمها بين بري وعون ورئيس الحكومة المكلّف حسّان دياب، في ظلّ "اشتباكاتٍ" على توزيع "الحصص" بين مختلف مكوّنات الحكومة المفترضة، من "التيار الوطني الحر" إلى "تيار المردة"، مروراً بـ"الحزب الديمقراطي اللبناني" و"الحزب القومي السوري الاجتماعي" وغيرهم.
وتصل "مهزلة التأليف" إلى أقصاها مع سيف "الانسحاب" من الحكومة، الذي لم يبقَ طرفٌ مفترضٌ فيها لم يُشهِره على امتداد أيام المفاوضات، من رئيس مجلس النواب الذي قال في وقتٍ من الأوقات إنّه لا يريد المشاركة في الحكومة لكنّه سيمنحها الثقة، إلى الوزير جبران باسيل الذي كاد يعلن صراحةً العزوف عن الخوض في الشأن الحكوميّ، من دون "ضمان" إعطاء الحكومة الثقة، وصولاً إلى تيار "المردة" الذي اختار رفع السقف، والتهديد بالويل والثبور إذا لم يُعطَ ما يريد.
ويكفي للحديث عن "مهزلة" ما يمكن وصفها بـ"العقد المفتعلة" التي تظهر في اللحظة الأخيرة كلّ مرة يقترب فيها الدخان الأبيض من التصاعد، كما حصل أكثر من مرّة في عطلة نهاية الأسبوع، حين أشيعت معلومات عن إمكان ولادة الحكومة، ليستيقظ البعض من "سباتهم" ربما، وتظهر عُقَدٌ كانت "مخفيّة"، ما ذكّر أصلاً بمراحل سابقة لم تكن شديدة الاختلاف، قد يكون أبرزها ما حصل خلال تشكيل حكومة نجيب ميقاتي مثلاً، التي وُصِفت أيضاً بـ"حكومة حزب الله"، واختار الوزير طلال أرسلان مثلاً "التمرّد" عليها حتى بعد تشكيلها، يوم رفض الالتحاق بها تحت عنوان "وزير دولة".
مهمّة مستحيلة؟!
إزاء العقد المفتعَلة التي ظهرت في الساعات الماضية أمام تشكيل الحكومة، والتي وُصِفت في أكثر من مكان بـ "الصبيانية"، ثمّة من طرح أسئلة جوهرية عن موقع "حزب الله" منها، فهل يريد الأخير فعلاً تأليف الحكومة؟ وإذا كان كذلك، لماذا لا يضع حداً لمطامع حلفائه التي باتت تشكّل "إدانة" له قبل غيره؟ وإذا كان من الصعب عليه أن يقرّب وجهات النظر بين حلفائه كما توحي أفعاله، فلماذا لا يقوم بتيسير الحلّ من "كيسه"، كما حصل في أكثر من محطّة سابقاً؟!
في هذا السياق، يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" أنّه بقدر "حرصه" على مروحة التحالفات التي نسجها على مرّ السنين، فهو "حريص" بالقدر عينه على عدم "إحراج" أيّ من هؤلاء الحلفاء، وهو لذلك يقف "على الحياد" عندما تحتدم المواجهة بينهم، بعدما تخلّى عن مهمّة "الوساطة" التي بدت مستحيلة بالنسبة إليه، نتيجة "جسّ نبض" جاء بنتائج سلبيّة، خصوصاً على مستوى العلاقة بين الرئيس عون والوزير باسيل من جهة ورئيس تيار "المردة" النائب السابق سليمان فرنجية من جهة ثانية، وبين عون وباسيل ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ولو بدرجةٍ أقلّ.
وإذا كان كثيرون يعتبرون "الحزب" بمثابة "المايسترو" الذي لا يزال قادراً على ضبط حدود الخلافات المتفاقمة بين حلفائه، وهو ما يتجلى في مواقف فرنجية مثلاً الذي حافظ على الإطار "الاستراتيجي" للعلاقة معه، على رغم "الخصومة الشرسة" مع عون وباسيل، فإنّ ثمّة من يرى أنّ الأمور بدأت تفلت عن السيطرة، وهي ستفلت لا محالة مع بدء العدّ العكسي للانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي ينظر فيها كلّ من فرنجية وباسيل إلى الآخر على أنّه المنافس الرقم واحد، خصوصاً على قلب "حزب الله" الذي قد يكون الناخب الأول، بل المقرّر بينهما.
ولا يختلف المُعطى الحكوميّ كثيراً عن الرئاسيّ في قاموس "الحزب"، برأي المقرّبين منه، ممّن يتحدّثون عن حرصٍ على الوقوف على خاطر هذا ومراعاة ذاك، انطلاقاً من اعتقاد الحزب أنّ "أجندته" تتطلّب الإبقاء على علاقاته من دون أيّ "عطبٍ"، وإن كان كثيرون يلومونه على "تكبير حجم" بعض الفرقاء، ممّن باتوا يضعون أنفسهم بمصاف "الأقطاب" القادرين على فرض الشروط، وهو الأمر الذي عبّر عنه النائب جميل السيد مثلاً صراحةً، حين دعا الحزب إلى "نفض يده"، بل "ترك الوسخ السياسي في أيدي أصحابه"، على حدّ وصفه.
في "قفص الاتهام"!
يقول كثيرون إنّ "حزب الله" غير راضٍ على مفاوضات تشكيل الحكومة، فهو كان يمنّي النفس بولادةٍ سريعةٍ للحكومة، فإذا به يصطدم بـ"محاصصةٍ" أصرّ عليها حلفاؤه علناً، ما أطاح سلفاً، بفرصة الحكومة، متى شُكّلت، على كسب ثقة الشارع، الذي شهد بأمّ العين على ذهنيّة تأليفها، البعيدة كلّ البعد عن مبادئ "الاختصاص" و"الاستقلالية".
في المقابل، يرى البعض أنّ "الحزب" هو الذي يقف عملياً وراء كلّ "الابتزاز" الذي يقدم عليه حلفاؤه، لمنع ولادة الحكومة، لأنه ليس مرتاحاً من الأصل لشكل الحكومة، ولا حتى لرئيس الحكومة المكلّف، الذي اختير كـ"ردّة فعل"، وهو لا يزال يتوجّس من "سيناريو" المؤامرة، التي نبّه منها منذ انطلاقة التحرّكات الشعبية في السابع عشر من تشرين الأول الماضي.
وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ "معارك الحلفاء" باتت مضرّة للحزب قبل غيره، وهو العاجز عن الحدّ من "شراهة" هذا الحليف، أو "مطامع" ذاك، من دون أيّ اعتبارٍ للأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ما يرتدّ سلباً عليه قبل غيره، ويضعه في "قفص الاتهام" من جديد...