بخطابٍ إنشائيّ ووجدانيّ يختزل بين طيّاته الكثير من العواطف، "بشّر" رئيس مجلس الوزراء حسّان دياب اللبنانيين بولادة الحكومة التي أطلق عليها شعار "إنقاذ لبنان"، معترفاً بأنها تعبّر عن "لون واحد" قال إنّه "لون لبنان"، ومؤكّداً أنّها ستعمل على تلبية مطالب وتطلّعات المعتصمين في الساحات منذ أكثر من ثلاثة أشهر.
لم ينعكس كلام دياب "الإيجابيّ" على الأرض سريعاً، إذ اصطدم بالمزيد من "الغضب"، غضبٌ اختلط فيه "الشعبيّ" بـ"الحزبيّ"، بين من قرأ في شكل الحكومة وطريقة تشكيلها "إنكاراً" لواقعٍ جديدٍ رسمته "الثورة"، ومن اختار "التمرّد" عليها قبل التمعّن في التركيبة وأسماء الوزراء، رفضاً لـ"لونها الواحد"، أو ربما اعتراضاً على إطاحتها ببعض القوى والشخصيّات.
وإذا كان من الصعب التكهّن سلفاً بـ "عمر" هذه الحكومة، التي تلاحقها التحدّيات من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وتواجهها معارضةٌ شرسةٌ مصمّمةٌ على الإطاحة بها سريعاً، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه يبقى عمّا إذا كانت ستُعطى "مهلة سماح" قبل الحُكم عليها، خصوصاً أنّ "ترف" إسقاط الحكومة للإتيان بأخرى بعد مخاضٍ طويلٍ، لا يبدو خياراً ممكناً...
حكم "ظالِم"؟!
قد لا يكون "ظالماً" الحكم سلباً على الحكومة التي وجد فيها رئيسها "انتصاراً للبنان"، ومن دون التمعّن بالحجم أو التركيبة، وبلا تكبّد عناء الاطّلاع على السّيَر الذاتيّة لأعضائها، لا لشيء إلا لكونها في الشكل لم تأتِ على قدر الطموحات والتطلّعات، خصوصاً بعد نجاح "عرّابيها" في "نشر غسيلهم" على الهواء مباشرةً، ما دفع "حزب الله" نفسه الذي سُمّيت الحكومة على اسمه في الكثير من الأوساط، إلى "نفض يده" من حلفائه في لحظةٍ مفصليّةٍ سبقت "تنازلات" اللحظة الأخيرة.
فإذا كان رئيس الحكومة "احتفى" بكون حكومته الأولى من نوعها على أكثر من مستوى، إلا أنّه لا يستطيع القول إنّه كان "وفياً" للوعود التي أطلقها يوم تكليفه، حين أعلن عزمه على تشكيل "حكومة اختصاصيّين"، أصرّ على تصنيفهم بـ"المستقلّين"، خصوصاً بعد اضطراره إلى تقديم العدد الأكبر من "التنازلات"، كان أولها التخلّي عن عددٍ من الأسماء التي كان يصرّ على حضورها في حكومته، قبل أن تصطدم بـ"فيتو" هذا الطرف أو ذاك، وآخرها رفع حجم الحكومة إلى عشرين وزيراً، في سبيل إرضاء القوى السياسيّة التي وجدت نفسها "مظلومةً" في صيغة الثمانية عشر وزيراً، مع أنّ المفترض أنّ كلّ هذه القوى غير ممثَّلة بصورةٍ مباشرة في الحكومة الموعودة.
ولعلّ "المهزلة" التي شهدتها مفاوضات التأليف في الأيام الأخيرة كافية بالنسبة لكثيرين للحكم سلباً على الحكومة، التي قد تكون "ثغرتها" الأكبر في مسار تشكيلها، الذي بدا نسخة غير منقّحة، بل طبق الأصل، عن مسارات تشكيل الحكومات السابقة والمتعاقبة منذ الطائف، والمبنيّة على أساس منطق التسوية والمحاصصة، الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه. وقد يكون المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس تيار "المردة" النائب السابق سليمان فرنجية، وهو المعروف بصراحته، الأكثر وضوحاً في هذا السياق، إذ سمّى "البيك" الأمور بأسمائها، بعيداً عن "لعبة" المصادر والتسريبات، ملوّحاً بالانسحاب من الحكومة إذا لم يُعطَ "الحصّة" التي يريد، مقارنةً بـ"الحصّة" التي نالها "التيار الوطني الحر" على سبيل المثال.
إيجابيّات... وتحدّيات!
لكن، أبعد من مسار التشكيل الذي لم يبدُ "مبشّراً" بالمُطلَق، مهما حاول داعمو حكومة دياب والراغبون بتسهيل مهمّتها، ثمّة "إيجابيّات" يمكن التوقف عندها في الشكل النهائيّ الذي ارتدته الحكومة، من بينها المدّة التي استغرقتها ولادتها، على رغم كلّ الظروف والحيثيّات السلبيّة المحيطة، إذ إنّها أتت مطابقة لـ"وعد" رئيسها بتشكيلها خلال مهلة تتراوح بين أربعة وستة أسابيع، وإن رأى كثيرون أنّها كان يجب أن تؤلَّف قبل ذلك بكثير، خصوصاً أنّ المفاوضات كانت تدور بين أحزاب "اللون الواحد".
ولعلّ حضور المرأة النوعيّ في المرأة من الأمور التي تسجَّل للحكومة ولرئيسها أيضاً، وهو الذي كان قد وعد بأن لا تقلّ حصّة النساء في حكومته عن ستّ وزيرات، إلا أنّه لم يكتفِ بذلك، بل أعطى المرأة وزارة الدفاع ونيابة رئاسة الحكومة للمرة الأولى في تاريخ لبنان، إلى جانب وزاراتٍ مهمّة. ولا يُسجَّل للحكومة أيضاً أنّها فصلت النيابة عن الوزارة بشكلٍ صريحٍ وواضحٍ فحسب، بل إنّ معظم وزرائها هم من حَمَلة رتبة الدكتوراه، ومن أساتذة الجامعات ومن أصحاب الباع الطويل في العمل الأكاديميّ، الأمر الذي يعكس إصرار دياب على اختيار وزرائه بعناية كما قال في أكثر من مرّة، وهو الذي قيل مراراً إنّه كان يجري "مقابلات" مع المرشحين للتوزير، على غرار "مقابلات التوظيف".
ولكن، أبعد من كلّ "الإيجابيّات" الشكليّة هذه، يبقى الأساس قدرة هذه الحكومة على مواجهة "التحديات" التي تنتظرها، والتي لا يمكن الحكم عليها إلا بموجبها، وفي مقدّمها "المعارضة"، أو ربما "المعارضات" التي تنتظرها، سواء من الأحزاب التي بقيت خارجها للمرّة الأولى منذ فترةٍ طويلة، على غرار "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، فضلاً عن حزبي "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية"، أو حتى من الشارع الذي انتفض سريعاً جزءٌ كبيرٌ منه، رفضاً لها ولطريقة تشكيلها.
ومع أنّ هذا "التحدّي" قد يحمل "إيجابيّة" في مكانٍ ما، لجهة إعادة الاعتبارللنظام البرلمانيّ الديمقراطيّ الذي يفصل بين الموالاة والمعارضة، بعدما عرّته "حكومات الوفاق الوطني" من مضمونه، فإنّ "المفصل" في كلّ ذلك يكمن في قدرة هذه الحكومة على "الإنجاز" بشكلٍ سريعٍ، وبعيداً عن ذريعة "التعطيل" المُعتادة، ليس فقط لأنّ "الإنقاذ" الذي ترفعه الحكومة العتيدة شعاراً، لا يحتمل أيّ انتظار، ولكن قبل ذلك، لأنّ ما قبل السابع عشر من تشرين الأول ليس كما بعده، وبالتالي لن يكون "النوم على الحرير" خياراً لأيّ سُلطةٍ، وإلا فإنّ مشهد "الثورة" سيسبقها، وسيطيح بها مهما كابرت، تماماً كما حصل مع الحكومة السابقة.
سحب الثقة!
على رغم "الإيجابيّات" التي يمكن تسجيلها في "ثنايا" الحكومة الجديدة، فإنّ أحداً لا يستطيع "تبييض صفحتها" بسهولةٍ، بعدما انجرّت إلى فخّ "المحاصصة"، ولم تجد الأحزاب الداعمة لها في "الصراع" على "الحصص" فيها، ما يتناقض مع العناوين المطروحة لها، والتي أتت نتيجة طبيعيّة لـ"ثورة" اللبنانيين على واقعهم.
مع ذلك، يرى كثيرون أنّ من حقّ الحكومة على اللبنانيين الثائرين قبل غيرهم، أن تُمنَح "مهلة سماح" تستطيع من خلالها أن تثبت خيرها من شرّها، خصوصاً أنّه قد لا يكون منطقياً أن يكون وزراؤها ارتضوا الدخول في غمار معركةٍ "انتحاريّة"، في مثل هذا الوقت الدقيق، لـ "إحراق" أنفسهم، وجلّهم من الأكاديميّين.
لكن، أياً كان الرأي الذي سيسود في النهاية، فإنّ الأكيد أنّ "مهلة السماح" هذه، إن تحقّقت، لا يمكن أن تطول كثيراً، بل إنّ أيّ "مماطلةٍ" ستطيح سريعاً بالحكومة، وبلا أيّ اعتبار لمكابرة رئيسها، لأنّ "سحب الثقة" عبر الشارع لن يكون نزهة، كما كان "سحب التكليف" مثلاً في مرحلة من المراحل...