لا يمكن الكلام في السّياسة من دون الكلام في القانون وإحقاق الحقّ والعدالة بين النّاس لئلّا تسودَهم شريعة الغاب. فالقانون بحسب قاموس السّياسة "يضع المعايير للسّلوك البشريّ" وهو "يضبط طبائع البشر". من يدرس الكتاب المقدّس يجد أنّ الله، ومن اليوم الأوّل، ابتدأ بإعطاء الوصايا المناسبة للنّاس وذلك ليضبط تصرّفاتهم وليحمي حياتهم الّتي أفسدتها الخطيّة. وكان ذلك من خلال رجال اختارهم لينقلوا وصاياه الشفهيّة إلى البشر. وكان بين هؤلاء آدم وأخنوخ ونوح وغيرهم الّذين عاشوا مئات السّنين فضمنوا وصول وصايا الله للأجيال المتتابعة وشجّعوا على طاعتها. وتضمّنت وصايا الله كلّ ما يحتاجه النّاس في زيجاتهم وعائلاتهم وعلاقاتهم وأعمالهم ومجتمعاتهم وفي حلّ خلافاتهم وغيرها.
وهكذا لم يُحرَم المجتمع البشريّ، في يومٍ من الأيّام، من التّاريخ المبكر، من وصايا الله الّتي جاءتهم عبر "إعلاناته المباشرة" وعبر "صوت الضَّمير" و"أحكام العقل" الَّذي خلقه فيهم وفطره على مبدأي التّمييز والحكم في الأمور المتخالفة. وهذا ما أسّس، لما سمَّاه توما الأكوينيّ في ما بعد، القانون الطَّبيعي أو ما يُعرف باللاتينيَّة Lex Naturalis الَّذي عَكَسَ وصايا الله الّتي احتاج إليها البشر في سكناهم المشتركة في الأرض. وهذه القواعد الّتي زرعها الله أوّلاً في ضمائر النّاس عادت وظهرت في الشّرائع المدنيّة الوضعيّة أو المكتوبة، كشريعة حمورابي (1760 ق م)، ومن ثمّ في الشّرائع الدّينيّة، كشريعة موسى (1445 ق م).
أمّا الشرائع المدنيَّة فتهدف إلى تحسين الأحوال السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في المجتمع وتحقيق العدالة والسّلام والحكم الصالح والازدهار الاقتصاديّ. وهي تدين الكذب، والافتراء، وتشويه السّمعة، وشهادة الزّور، والخطف، والقتل، والاعتداءات الجسديّة، والسّرقة، والسّطو، وأحكام الجور، والاعتداء على الملكيَّات الفرديَّة، وموازين الغشّ، والرّشوة، والاغتصاب، والزّنى، وسفاح القربى، وإجهاض الحامل، وإهانة الأهل وغيرها من المعاصي.
والفرق بين الشّرائع المدنيَّة والدينيّة في الشَّرق الأدنى القديم، فهو أنّ الأولى كان جلّ اهتمامها مدنيًّا وجزائيًّا. وهي مبنيّة على قوّة الرّدع الواردة في قانون الثّأر والانتقام Lex Talionis، الّتي هي في أساس قانون العقوبات في يومنا. والّتي صاغها أوّلاً حامورابي، وجاءت بعده لدى موسى، وعُرفت بشريعة "العين بالعين والسّنّ بالسّنّ" والتي تُحدّد العقاب على قدر الذّنب، والّتي انتقلت إلى الشّرائع الرّومانيّة والمعاصرة. أمّا الشّرائع الدينيّة فلديها همّ روحيّ إضافي يتمثّل بمعالجة أسباب المعصيّة لمصالحة الإنسان مع خالقه.
إلّا أنّ تزايد المشاكل بين النّاس قاد إلى تأسيس السّلطة القضائيّة الّتي صارت حاجةً أساسيَّةً في المجتمعات حيث لا يقوم الإنسان بتحصيل حقوقه بيده بل يلجأ إليها لتُنصفه وتحميه. ولأهميّة دور القضاة، يُحدّد الكتاب المقدس أنّه يجب أن يكونوا من ذوي القدرة والعلم والخائفين الله والأمناء الّذين يُبغضون الرّشوة ويحكموا بالعدل، وبحسب الضمير والقانون، فيكون في الشَّعب استقرار وسلام وعدالة وصلاح. وقد حذّر سليمان الحكيم القضاة من المحاباة وظلم الأبرياء وتبرئة المذنبين: "مُبرّئ المـُذنب ومُذنّب البريء كلاهما مكرهة الرّبّ".
ليعيش الناس بسلام في ما بينهم، يحتاجون إلى أمرين: أولاً احترام القانون على أساس أنّه "مُقدّس وعادل وصالح". والثّاني فَهْم واجباتهم وحقوقهم والالتزام بالقاعدة الذهبيَّة الّتي علّمها المسيح والّتي تقول: "فكُلّ ما تُريدون أن يفعل الناس بكم إفعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأنّ هذا هو النّاموس والأنبياء". أمّا الدولة فتحتاج إلى قضاءٍ عادلٍ وسليمٍ يفرض حكم القانون والعدالة بين النّاس لخيرهم ولفلاحِها، وذلك على أساس المبدأ الخالد: "البرّ يرفع شأن الأمّة".