على ضوء عدم إلتزام الجانب التركي من وجهة نظر موسكو بالإتفاقيات الموقعة، في آستانا وسوتشي، حول ملف إدلب، التي باتت المنطقة الوحيدة الخاضعة لإتفاقيات خفض التصعيد، بدأ الجيش السوري قبل أيام، مدعوماً من روسيا، عملية عسكرية متعددة المحاور، في كل من ضواحي حلب الغربيّة وريفها الجنوبي الغربي، بالإضافة إلى ريف إدلب الجنوبي، في حين كان رد أنقرة عبر إتهامات مضادّة تؤكد عدم إلتزام الجانب الروسي بالتعهدات التي وقع عليها، بالتزامن مع تهديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنّ صبر بلاده بدأ ينفد.
في المشهد الميداني، يتابع الجيش السوري عملياته على المحاور المختلفة، محرزاً تقدماً سريعاً في ريف إدلب الجنوبي، بعد أن نجح في السيطرة على معرّة النعمان، متمدداً باتجاه سراقب شمالاً على الطريق الدولي، ما يفتح الباب أمام السيطرة على طريق "M5" (حلب-دمشق) وطريق "M4"، الذي يربط محافظتي حلب وإدلب باللاذقيّة غرباً.
في هذا السياق، يمكن القول أن إستعادة السيطرة على معرّة النعمان، فجر الاربعاء، كانت النقطة المفصليّة، نظراً إلى أنها من الناحية العسكرية من المفترض أن تكون نقطة إنطلاق نحو سراقب من جهة الشمال، وأريحا من جهة الشمالي الغربي، ثم الإنطلاق نحو جسر الشغور، كما أنها من الممكن أن تكون نقطة إنطلاق نحو قرى جبل الزاوية، من دون تجاهل القيمة المعنويّة التي كانت تشكلها بالنسبة إلى فصائل قوى المعارضة المسلّحة، بينما السيطرة على بلدة خان طومان في ريف حلب الجنوبي الغربي، تعني توسيع الطوق حول مدينة حلب.
ما تقدم على المستوى الميداني، لا ينفصل عن التطورات على المستوى السياسي، التي لا تتوقف عند موقف فريقي النزاع في سوريا، أي الحكومة وفصائل المعارضة المسلحة، بل تشمل كل من تركيا وروسيا، حيث برز التوتر في العلاقة بين الجانبين، لا سيما بعد أن أكّدت موسكو، على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف، أن "جبهة النصرة" تتحمل مسؤولية الوضع الراهن، من دون أن يتجاهل توجيه الإتهامات إلى فصائل المعارضة، التي لم تتوقف عن الإتصال مع الإرهابيين بحسب تعبيره، في حين أنّ الإتفاقات مع أنقرة كانت تنص على الفصل بين الجانبين.
على هذا الصعيد، لا تزال دمشق مصرة على المواقف التي تعلنها دائماً، لناحية إستعادة السيطرة على كامل التراب السوري، في حين أن موسكو وضعت معادلة عدم "الرحمة" مع الإرهابيين، في مقابل سعي أنقرة، التي تتمركز قواتها في عدد من نقاط المراقبة، إلى تأكيد عدم وجود إرهابيين، في ظل مخاوفها من أن تؤدي المواجهات العسكرية الحالية إلى حركة نزوح جديدة باتجاه أراضيها، من دون اسقاط إحتمال صدامها مع عناصر "النصرة" بحال إشتداد المعارك التي تخوضها الأخيرة، بينما هي عملت، في الفترة الماضية، على نقل مقاتلين من فصائل المعارضة السوريّة من إدلب الى ليبيا، للقتال إلى جانب القوات التابعة لحكومة "الوفاق الوطني" برئاسة فايز السراج، في وجه تلك التابعة لـ"الجيش الوطني" بقيادة المشير خليفة حفتر.
وفي حين تبدو روسيا قادرة على تجنب التصعيد التام مع تركيا، نظراً إلى المصالح المشتركة بين البلدين على أكثر من صعيد، خصوصاً على المستوى الإقتصادي، بالإضافة إلى أنها تجيد معارك "القضم" التي خاضتها على الساحة السورية في السنوات الماضية، يمكن القول أن الواقع الجديد، خصوصاً في حال نجاح الجيش السوري في تحقيق الأهداف المرجوّة من العمليات الحالية، سيفرض واقعاً جديداً على المعارضة السورية، بالنسبة إلى أي إتفاق تسوية، نظراً إلى أنها ستكون في موقع أضعف من السابق، وبالتالي من الممكن أن تنجح الضغوط الإقليمية والدولية في دفعها إلى تقديم تنازلات سيّاسية أكبر، لا سيما أنّ أنقرة تخوض أكثر من مواجهة مع الدول الفاعلة على المستوى الإقليمي.
في المحصّلة، تفتح المعارك التي يخوضها الجيش السوري حالياً الباب أمام معادلة سيّاسية جديدة، من الممكن أن يتمّ فرضها في الأيام القليلة المقبلة، لا سيما بعد أن باتت فصائل المعارضة أكثر ضعفاً، في ظل إنشغال الداعم التركي في المواجهات التي يخوضها على أكثر من جبهة.