لا نبالغ إذا ما قلنا انّ الإعلان عن جريمة القرن من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو، يشكل نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة من الصراع العربي الصهيوني، نهاية مرحلة ساد فيها فلسطينياً وعربياً رهان على الولايات المتحدة الأميركية كراع ووسيط بين العرب وكيان الاحتلال، لتحقيق تسوية سياسية، تفضي إلى انسحاب جيش الاحتلال من الأراضي العربية التي احتلها عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون القدس الشرقية عاصمتها.. فإعلان ترامب عن الصفقة بحضور نتنياهو في واشنطن أفضى عملياً إلى النتائج التالية:
النتيجة الأولى، وضع نهاية لما سمّي تمايزاً في الموقف الأميركي إزاء الموقف الإسرائيلي، من مفهوم حلّ الصراع، وأكد انّ الرؤية الأميركية هي نفس الرؤية الصهيونية.. وأنّ أميركا مثلها مثل «إسرائيل» لا تختلف او تفرق عنها في شيء لناحية العداء للعرب وحقوقهم المشروعة في فلسطين المحتلة، وأنّ من كان يراهن على موقف أميركي للضغط على كيان الاحتلال لتليين مواقفه وجعله يقبل بحلّ وسط، قد وصل إلى نهاية هذا الرهان الخاسر، والذي بُني على أوهام ليس إلا، لأنه لم يدرك ماذا تعني «إسرائيل» بالنسبة لأميركا، وماذا تعني أميركا بالنسبة لـ «إسرائيل»… انّ «إسرائيل» إنما هي أداة الاستعمار الغربي الذي زرعها في قلب الوطن العربي كي يمنع وحدة الأمة، ويبقيها تحت سيطرته وهيمنته ليتمكن من مواصلة نهب وسرقة خيراتها..
النتيجة الثانية، لقد أدّى الإعلان عن الصفقة إلى إسقاط ورقة أساسية كان يستخدمها الأميركي والصهيوني، وهي توزيع الأدوار لإبقاء القيادة الفلسطينية والأنظمة العربية مخدوعين بالموقف الأميركي، ففي حين كان الموقف الصهيوني متصلباً في كلّ مراحل المفاوضات يرفض التراجع عن مخططاته وأطماعه في ابتلاع وتهويد كلّ أرض فلسطين ومقدّساتها، وصولاً إلى إقامة الهيكل المزعوم في المسجد الأقصى وتهويده، كانت واشنطن تناور وتمارس دور خداع الوفد الفلسطيني المفاوض، فتعمل حيناً على إقناعه بالاستمرار في الرهان على المفاوضات، وحيناً آخر بالضغط عليه لتقديم المزيد من التنازلات، بما يمكن «إسرائيل» من فرض وتكريس الوقائع على الأرض.. وقد نجحت واشنطن في بيع الأوهام للوفد الفلسطيني والحكام العرب، الذين اقتنعوا بأنّ أوراق الحلّ بيد أميركا، ولذلك ارتموا في أحضانها، وكانوا يروّجون لذلك… من هنا فإنّ سقوط هذه الورقة من يد أميركا و»إسرائيل» يشكل خدمة للشعب العربي الفلسطيني، وخسارة لـ «إسرائيل» وواشنطن، وهو ما دفع المسؤول الأميركي السابق عن ملف المفاوضات مارتن انديك، إلى القول، انّ هذه الصفقة لا تخدم «إسرائيل»، وتساءل انديك، ايّ نوع من التوصيات اعتمدت عليها دولة عظمى كالولايات المتحدة حتى تقع في فخ تهوي فيه إلى مستوى متدنّ من السياسة الخارجية على هذا النحو».. فيما أجمع الخبراء الأميركيون على أنّ ما يراه ترامب كخطة سلام سيكون له نتائج عكسية، إذ تبعد وتعقد من تحقيق السلام بين الأطراف، خاصة مع تجاهلها مبدأ حلّ الدولتين، فهي برأيهم «تهدّد ديمقراطية إسرائيل» وتضر «بمصداقية الولايات المتحدة» وتقود إلى «انعدام فرص خلق دولة فلسطينية».. أما التعليقات الإسرائيلية من قبل المحللين والصحافة، فقد أجمعت على أنّ صفقة القرن «أعادت فجأة القضية الفلسطينية إلى موقع الصدارة، ولن تصبّ في مصلحة إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو شخصياً، على عكس توقعاته».. وانّ «محمود عباس، أضعف رئيس عربي، سيطر على زعماء المنطقة وجرّهم إلى إصدار بيان يرفض صفقة القرن.. هذه صفعة لـ نتنياهو وإنجاز كبير على المستوى العربي، لانّ بيان الجامعة العربية سيمهّد لاستصدار قرار من القمة الإسلامية ( وهذا ما حصل) والأمم المتحدة لرفض صفقة القرن، وإذا تمّ ذلك فإنه سيعني وفاة الصفقة قبل أن تعيش»…
النتيجة الثالثة، خسارة «إسرائيل» المكتسبات التي يحققها لها استمرار المحافظة على اتفاق أوسلو، بعد قرار محمود عباس الردّ على الصفقة بقطع كلّ العلاقات مع «إسرائيل» وأميركا بما فيها التنسيق الأمني.. وعودة «إسرائيل» إلى تحمل كلفة احتلالها الذي جعله أوسلو أرخص احتلال في التاريخ.. ذلك أنّ عباس اتخذ هذا القرار لأنه لم يعد أمامه من خيار آخر بعد أن أنهت الصفقة أوسلو، الذي لم يبق منه أصلاً سوى ما يخدم «إسرائيل»…
النتيجة الرابعة، إسقاط ثقافة التسوية نهائياً من أذهان الجماهير العربية، وإعادة بعث وترسيخ ثقافة المقاومة كخيار وحيد لتحرير الأرض واستعادة الحقوق، هذه الحقيقة التي حاولت الولايات المتحدة والأنظمة العربية الرجعية محوها من أذهان الناس من خلال الترويج لخيار التسوية.. إنما تصبّ في صالح محور المقاومة الذي نجح في تأكيد نجاح خياره في تحقيق ما عجز فيه خيار المفاوضات والرهان على الحلول السلمية بديلاً عن سلوك خيار المقاومة الشعبية والمسلحة.. حيث نجح في تحرير جنوب لبنان ومن ثم قطاع غزة من دون قيد ولا شرط…
النتيجة الخامسة، انّ إعلان الصفقة، انما يصبّ في صالح محور المقاومة، فالإعلان أدّى إلى توحيد الموقف الفلسطيني ضدّ الصفقة، وأحرج الأنظمة العربية الرجعية التي اضطرت إلى تأييد الموقف الفلسطيني في رفض الصفقة، في حين انّ الموقف الدولي اعتبر الصفقة تتناقض مع القرارات الدولية.. لذلك فإنّ الإعلان عن الصفقة وفر الظروف والمناخات لصالح انتهاج المقاومة الشعبية والمسلحة في مواجهة الاحتلال الصهيوني، لا سيما بعد أقفلت الصفقة الباب نهائياً أمام ايّ خيار آخر..
انطلاقاً من كلّ ما تقدّم يمكن القول إنّ الصفقة كان لها نتائج إيجابية لمصلحة نضال المقاومة الفلسطينية، ومحور المقاومة الذي يساند الشعب الفلسطيني بحق، فالشعب الفلسطيني أدرك اليوم من هو عدوّه، ومن هو صديقه الحقيقي، أما لناحية الواقع فإنّ الصفقة لم تحدث ايّ تغيير، فالاحتلال أصلاً هو المسيطر على القدس والضفة الغربية، وهو كان قد أعلن منذ زمن بعيد ضمّ القدس والضفة، ولذلك فإنّ الإعلان الصفقة لا يقدّم أيّ جديد من هذه الناحية، بل خدم المقاومة الفلسطينية، وأماط اللثام عن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة، وأسقط خداعها ومسرحية لعبها دور الوسيط والراعي للمفاوضات، والذي لم يكن يوماً إلا لتسويق الموقف الإسرائيلي وفرض الشروط والإملاءات على العرب، أليس هذا ما تضمّنته اتفاقات كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة التي تمّت برعاية واشنطن؟! لذلك فإنّ صفقة القرن أسدلت الستار على مرحلة الخداع الأميركي، وشكلت بداية لمرحلة جديدة تعيد تصويب النضال الوطني التحرري العربي الفلسطيني بعيداً عن أوهام وسراب التسوية التي لم تنتج سوى ضياع للوقت، وتشريع للاحتلال، واستسلام لشروطه