يطغى التوتر الروسي التركي على الساحة السورية على العملية التي يقوم بها الجيش السوري هناك، لكن من الناحية لهذه العملية تداعيات عسكرية وسياسية كبيرة سوف تتظهر في الأيام المقبلة، نظراً إلى أنها ستفرض معادلة جديدة في الميدان تسعى أنقرة إلى فرملتها بأيّ وسيلة، لا سيما بعد أن أدخلت قوتها العسكرية بشكل مباشر إلى أرض المعركة، الأمر الذي يفتح الباب على عدّة سيناريوهات.
في الصورة العامة، تضع دمشق تأمين الطرقات الدوليّة وفق منطق آستانة على رأس قائمة أولوياتها، واليوم الحديث هو عن طريقي حلب دمشق وحلب اللاذقية، الأمر الذي يتطلب السيطرة على 3 مناطق أساسية هي سراقب وجسر الشغور وكباني، أي تلك التي لا تزال تحتضن العدد الأكبر من المسلّحين، في حين أن التعامل مع إدلب سيكون بعد ذلك وفق منطق أسهل، بعد تفكك الحالة الموجودة في المدينة على إثر سقوط المناطق الثلاث المذكورة في الأعلى.
من هذا المنطلق، يمكن القول أن أساس المواجهة سوري-تركي وليس روسيا-تركيا، كما يتم الترويج في معظم وسائل الإعلام، لا سيما أن أنقرة أرسلت رسالة واضحة بأن الحرب بالوكالة التي كانت تخوضها عبر مجموعة واسعة من الفصائل المسلحة لم تعد واردة، والسبب بالدرجة الأولى إلى أن هذه الفصائل كانت قد استنفرت على نحو واسع في سياق المعارك الداخلية التي خاضتها في ما بينها في السنوات الماضية، وبالتالي هي لم تعد قادرة على الصمود في وجه عملية عسكرية كبرى كتلك التي يخوضها الجيش السوري اليوم، خصوصاً أن الأخير بات لديه الإمكانية لزجّ المزيد من القوات في هذه المعركة، بعد أن نجح في إستعادة زمام الأمور على مختلف الجبهات الأخرى.
بناء على ما تقدم، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة لماذا لم تحصل هذه المواجهة قبل سنوات، والإجابة واضحة عليه "لأن دمشق كانت منشغلة في معارك أخرى"، لكن اليوم بالإضافة إلى إستعادة زمام الأمور من الناحية العسكرية لا يمكن تجاهل التحوّل القائم على المستوى السياسي، الذي يترجم بالإشارات الإيجابيّة التي ترسل من قبل بعض الدول العربية، لا سيما السعوديّة والإمارات، وهو ما يقرأه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل جيّد، نظراً إلى أنه يعني السباق نحو العاصمة السوريّة بين محور أنقرة ومحور الرياض.
ضمن هذا الإطار، من الضروري الإشارة إلى أن العمليّة العسكريّة كانت قد انطلقت قبل أشهر، لكن تزخيمها من جانب دمشق جاء بعد حديث أردوغان الأخير عن إتفاقية أضنة، التي دعا إلى تفعيلها قبل نحو اسبوعين، والتي تعني إعترافاً من جانبه بشرعية الحكومة السوريّة التي كان يسعى إلى نفيها على مدى السنوات السابقة، الأمر الذي سيكون له تداعيات كبيرة على واقع قوى المعارضة وفصائلها المسلحة، ضمن معادلة التقابل مع دمشق من الناحية القانونيّة، نظراً إلى أنها إتفاقية بين الدولتين.
في المشهد العام، لا يمكن تجاهل التقارب بين الأكراد ودمشق في الجانب الآخر من المواجهة التي تخوضها أنقرة على الساحة السوريّة، وبالتالي أردوغان يشعر بالقلق من هذا التحول الذي يعرقل تحركه، الأمر الذي يؤشر إلى أنّ الحديث عن إتفاقيّة أضنة يأتي في سياق السعي إلى طرح التفاهم قبل إقتراب الجيش السوري من إدلب أكثر، وبالتالي إضعاف أوراق أنقرة في أي مفاوضات، الأمر الذي ستسعى إليه دمشق بكل قوة في الأيام المقبلة، وهو ما قد يدفع أردوغان إلى رفع لهجته التهديديّة أكثر.
ما تقدم، يتضّح أكثر من خلال سعي الرئيس التركي إلى تحييد موسكو، الّذي تربطه علاقات إقتصادية كبيرة معها، بالرغم من الدعم الروسي الذي تحظى به دمشق في هذه المواجهة، من خلال تأكيده أن قوات بلاده ترد على هجوم الجيش السوري، داعياً روسيا إلى عدم وضع العراقيل، بالقول: "لستم الطرف الذي نتعامل معه"، لكن السؤال الذي يطرح نفسه يتعلّق بموقف دمشق العملي، الذي سيتضح أكثر في الساعات أو الأيام القليلة المقبلة.
في المحصّلة، عقدت على مدى السنوات الماضية العديد من اللقاءات السوريّة التركيّة، التي خرجت إلى العلن في أكثر من مناسبة، وهي ذات طابع أمني، في حين لم تكن دمشق ترفض بالمطلق اللقاء السياسي، لكنها كانت تضع شرطاً له بأن يصبّ في مصلحة بلادها، فهل تقود المعادلة الميدانيّة الجديدة إلى تسريع هكذا لقاء؟.