لَم يكُن همّ مارون تأسيس كنيسةٍ على اسمه، ولم يخطُر على باله هذا الأمر البتّة. فهذا القديس، ومعنى اسمه "السيّد الصغير"، الذي عاش حياته ناسكاً ورِعاً تقيّاً على جبل قورش في العراء ابتداءً من سنة 398، أمضى حياته مُنشغِلاً بتشَيّد بيته السماوي، قَلِقاً على مُستقبلِه الذي لا يزول، ساعياً إليه بكلِّ جوارِحه.
وأتباعُ مارون هُم اشخاصٌ جذبتهم الفضيلة القادرة وحدها على أن تُخاطب الطبيعة الأصليّة للإنسان المفطور على الخير، لأنّها تستهوي قلبه وتُثيرُ فيه عاطفة الحنين إلى الله. من هنا بالذَات بدأ هذا الشعب الذي أُطلق عليه فيما بعد إسم "الموارنة" والذي أصبحَ فيما بعد كياناً مُميّزاً في الكنيسة الكاثوليكية الجامعة.
وعلى مدى تاريخهم المُشَرِّف، عانى الموارنة من الظّلم أشدّه ومن الإضطهاد أقساه ومن العُنف أبغضُه. وفي كلِّ هذا لَم يضعفوا ولم يخضعوا ولَم يتوانوا عن تسيير حركة التاريخ في هذه البقعة من الأرض التي زُرعَوا فيها زرعاً جيّداً.
ولكن الحال أن صورة موارنة الزّمن الحاضر، لم تعد نفسها الصّورة التي عرفها التّاريخ وعرَّف بها عنهم! ولا أخطىء إن صوّرتُ واقع الحال وأحزنت الموارنة بما أقوله على أمل أن يؤول بهم حزنهم إلى التّوبة. ولا أُخطىء إن قُلت بأنَّ أبناء مارون لم يعودوا على وحدةٍ في القلب والرّوح والفكر والعقيدة. فهذا الجسد المسيحيّ السّريانيّ المشرقيّ المقدّس أصبح جسداً منقسماً على ذاتَه وعلى هويته: فمَن الموارنة مَن تفرنسَ بال " الإغّ"، وتأنجَلز بال" آر"، لُغَةً وثقافَةً وطريقة حياة، وكَفَر بلغة السّريان البائدة، وبلغة الضّاد التي لا ترقى بنظره إلى مستوى الرُّقيّ. وفي العقيدة، من الموارنة مَن تأنجلَ على الطريقة البروتستانتيّة، فَكَفر بمارون وبسلالة مارون؛ بشربل ورفقا وبقدّيسي الموارنة، واستفاض مديحاً بمارتن لوثر وبِجان كالفين، ومسبّةً ببطريركه وأساقفته وكهنته ورهبانه وراهباته. ومن الموارنة مَن تَمَسلَكَ بالبوذية والهندوسية، واعتنق نهجهما في التأمّل وتفريغ الذّات من الكبوات والهفوات. ومنهم من أصبح شاهِداً ليهوه، مُضلِّلاً الآخرين وهو نفسه مُضَلَّل. ومن الموارنة مَن ألحَد، ومنهم مَن فسد وأفسد، ومنهم مَن ... ومن الموارنة مَن تَمَاسَن، نسبَةً إلى الماسونيّة. وَمنهم مَن تَرَوتَرَ، نسبة إلى الرّوتارية. ومنهم مَن َتَلَينزَ، نسبة إلى الليونزيّة. ومن الموارنة مَن تَلبرَل، نسبةً إلى الليبراليّة. ومنهم مَن تدهرَن وتفلسف البعض بفلسفات العصر الحديث وما بعد الحديث، المُعادية لله والغريبة عن إيمانٍ وقيَم الآباء والأجداد.
وفي السّياسة، مِن الموارنة مَن تَسَعود، ومنهم مَن تأريَن، ومنهم مَن تأمركَ، ومنهم مَن تروَسَن وتَسوَرَن، ومنهم مَن تأورَب. سياسيّوا الموارنة لا يتّفقون، وأتباعهم يتحازبون، يتباغضون، يتحاقدون، يتقاتلون، يتناطحون، يتصارعون، يتحاربون. وفي السّياسة أيضاً، يستميت الموارنة من أجل معبودييهم الذين أفقروهم، ويُرجِعون، في الوقت نفسه، فقرهم إلى الكنيسة!
العديد من عائلات الموارنة إلى تفكّك. نسبة الطّلاق عند الموارنة إلى ارتفاع. العديد من رجال الموارنة غير مسؤولون. العديد من نساء الموارنة يُعقِّمن بطونهم بالعقاقير، وإن وَلدنَ فحدّهنَّ ذكراً وأُنثى يُسلمانهما إلى أيدٍ غريبة لتُربيّانهما، وإن لَم يُردنَ مواليدهنَّ أجهضنهم بالإتفاق مع أزواجهنّ أو بتحريضهم. جيل الشّباب عند الموارنة مُنسَجم مع الزّواج المدني والمُساكنة الحُرّة وزواج المثليين والإجهاض والقتل الرّحيم، ومع الطّروحات الليبراليّة التي تُسوقّها الجمعيات اللاحكوميّة التي ينتمون إليها، والتي تتبع أجندات عالميّة مُثيرة للرّيبة.
ولَم تَعُد حياة الموارنة تُشبِههم، ولا مائدتهم تُشبههم، ولا لغتهم تُشبههم، ولا تقاليدهم تُشبههم، ولا ليتورجيّتهم تُشبههم، ولا احتفالاتهم الدّينيّة والدنيويّة تُشبههم. كلّه أصبح مستورداً يُحاكي ثقافة العصر ولغة العصر وموضة العصر وصرعات وصيحات العصر، ولَو على حِساب التاريخ والجغرافيا والهوية والكيان.
وفي المُحصّلة، إن جَمعنا هذا البعض إلى بعضه، يُصبح البعضُ أكثريّة، ويُصبحُ أنّ أكثريّة الموارنة توقّفوا منذ زمنٍ بعيد عن أن يكونوا أبناءً أوفياء لمارون القدّيس، ولتاريخهم المقدّس ولكنيستهم المقدّسة. ويُصبِح أن الموارنة بحاجةٍ إلى البحث عن هويتهم الأصليّة، وعن الموارنة الأقحاح بين الموارنة. ويُصبِح أيضاً أن التّوبة قد أضحت حاجة مُلِحّة لهذا الشّعب؛ فالتوبة وحدها قادرةٌ على تصويب المسار ومنع الإنحدار، واستشراف المُستقبل على أُساس الماضي المُشرِق والمُشرّف، فيكون الموارنة كما آبائهم وأجدادهم، صانعي مجد الموارنة في الزّمن الحاضر، ومجد لبنان...والسّلام.