مرّة جديدة إمتدّت يد الغدر إلى القوى الأمنيّة في البقاع، وهذه المرّة إلى عناصر الجيش اللبناني في منطقة المشرفة في الهرمل، ما أسفر عن إستشهاد ثلاثة عسكريّين(1) وجرح آخرين. فإلى متى سيبقى هذا السلاح المُتفلّت الذي يحصد حياة الأبرياء من القوى الأمنيّة الرسميّة والمواطنين الآمنين، والذي يُشوّه سُمعة منطقة جغرافية لبنانية واسعة؟ ولماذا لم تنفع الخطط الأمنيّة السابقة في القضاء على عصابات القتل والسرقة والخطف والتهريب وزراعة المَمنوعات والمُتاجرة بها؟.
كثيرة هي الخُطط الأمنيّة التي خُصّصت في السابق لمنطقة البقاع، من دون أن تنجح في مُعالجة الفلتان الأمني إلا لفترات زمنيّة قصيرة جدًا. وقد تمّت تجربة بعض الخُطط الأمنيّة التي قضت بتنفيذ عمليّات إنتشار عسكري واسع وكثيف، لكنّها لم تنجح في مُعالجة المُشكلة، بسبب هروب المَطلوبين وإختبائهم في أماكن حُدوديّة نائية وآمنة، إضافة إلى إختباء بعضهم داخل قرى سوريّة حدوديّة، عشيّة كل إعلان مُسبق عن موعد إنطلاق هذه الخطط التي كان يُرافقها إرسال وحدات عسكريّة كبيرة إلى البقاع، بشكل إستعراضي وفي ظلّ تغطية إعلاميّة واسعة! وفي كلّ مرّة، ومع إنحسار الإجراءات الأمنيّة، وفكّ الحواجز الثابتة والطيّارة، كانت العصابات الإجراميّة تعود إلى أنشطتها، وكأنّ شيئًا لم يكن!.
وفي حزيران من العام 2018 الأسبق، تمّ اللجوء إلى أسلوب جديد قضى بتنفيذ خطّة أمنيّة مفتوحة وتصاعديّة من دون أي سقف زمني، وخُصوصًا بعيدًا عن الإستعراضات الإعلاميّة، والخطابات الرنّانة من قبل بعض السياسيّين المَعنيّين. وقضت الخطة الجديدة آنذاك، بإشراك وحدات قتاليّة نخبويّة من خارج البقاع، وذلك منعًا لإستغلال المَطلوبين أيّ رابط عائلي أو عشائري، أو أي معرفة مُسبقة بالعناصر المُكلّفين المهمّات الأمنيّة، كما حصل في بعض المرّات في السابق، وأدّى إلى إفشال أكثر من مُحاولة إعتقال مُسبقًا، عندما كان يتمّ تكليف الوحدات العسكريّة والأمنيّة المُنتشرة في البقاع بتنفيذ المُداهمات. أكثر من ذلك، تمّ التخلّي عن عمليّات الدهم الجَماعيّة، لصالح عمليّات دهم فرديّة نوعيّة ومُباغتة، وذلك وفق معلومات إستخباريّة مفيدة، في الوقت الذي حصلت فيه الوحدات التي نفّذت المُداهمات بمؤازرة كبيرة من قبل قوى عسكريّة تولّت نصب الحواجز المتحرّكة على الطرقات الرئيسة والفرعيّة، وذلك لمنع فرار أي من المَطلوبين. وقد حقّقت هذه التدابير نتائج أفضل مُقارنة بكل الخطط السابقة، وقد بقيت مفاعيلها قائمة لأشهر عدّة، قبل تسجيل عودة الفلتان الأمني إلى بعض مناطق البقاع خلال الجزء الثاني من العام 2019 الماضي.
وخلال الأشهر الماضية، تصاعدت نسبة الفلتان مُجدّدًا بشكل ملحوظ، لأكثر من سبب، أبرزها:
أوّلاً: إستنزاف قوى الجيش اللبناني والقوى الأمنيّة الرسميّة المُختلفة، في الإحتجاجات الشعبيّة المناطقية، التي هزّت لبنان منذ 17 تشرين الأوّل الماضي حتى تاريخه.
ثانيًا: إرتفاع نسب البطالة والفقر والعوز، بسبب تدهور الأوضاع المعيشيّة والحياتيّة، وإتخاذ الكثير من العصابات الأمر ذريعة لتصعيد عمليّاتها الإجراميّة.
ثالثًا: عدم وفاء السُلطة السياسيّة بوُعودها بالنسبة إلى التصديق على قانون عفو عام، يُخرج الكثير من المُسجونين، ويفكّ حاجز الخوف عن عشرات آلاف المُطلوبين، علمًا أنّ الجزء الأكبر من هؤلاء هم من محافظة بعلبك–الهرمل، الأمر الذي دفع العصابات والمطلوبين إلى تصعيد عمليّاتهم مُجدّدًا، إنتقامًا.
رابعًا: عدم توفير قوى الأمر الواقع الحزبيّة في مُحافظة بعلبك الهرمل الغطاء الجدّي للقوى الأمنيّة الرسميّة، للسماح لها بالقيام بمهمّاتها بالشكل المَطلوب، والإكتفاء بدعوة هذه القوى إلى تحمّل مسؤوليّاتها، في الوقت الذي تُعتبر فيه المنطقة مُشرّعة أمام السلاح غير الشرعي، وتضمّ شوارع وأحياء بالغة الخُطورة أمنيًا.
في ظلّهذا الواقع، ومنعًا لإستمرار العصابات في عمليّاتها الإجراميّة، وتجنّبًا لخسارة القوى الأمنيّة المزيد من شبابها، وكذلك لتعرّض المواطنين الآمنين لمزيد من عمليّات القتل والخطف والسرقة، إلخ. صار من الضروري أن يرفع أي حزب فعليًا وليس نظريًا، أيّ غطاء سياسي أو معنوي أو طائفي، عن "الرؤوس الكبيرة" التي تُدير الشبكات والعصابات الإجراميّة(2)، وعدم ربط هذا الأمر بمطلب العفو العام، ولا بالخطط الإنمائيّة أو بالتقديمات الإجتماعيّة المَطلوبة لمنطقة بعلبك–الهرمل، تمامًا كما هي مَطلوبة لعكار وطرابلس والمنية، ولصيدا وصور والنبطيّة، وحتى لبيروت وجونية وجبيل، ولكل لبنان من دون أيّ إستثناء! والمَطلوب من أحزاب المنطقة، بذل الجهود ضُمن بيئتها الشعبيّة البقاعيّة، لإقناع الأهالي بأنّ المُداهمات تصبّ في مصلحتهم ومصلحة إستقرار مناطقهم، وتهدف إلى حمايتهم من العصابات، ولا ترمي إلى إنتهاك حُرمات منازلهم، أو النيل من هيبة عشائرهم–كما تُروّج العصابات المُسلّحة، حماية لأعمالها الإجراميّة.
في الختام، الأمل كبير أن تعمد قيادة الجيش اللبناني، ومُختلف القوى الأمنيّة الرسميّة، إلى التعامل بحزم كبير هذه المرّة مع الفلتان الأمني في البقاع، ليس إنتقامًا لأرواح الشهداء الأبطال الذين إنضمّوا بالأمس القريب إلى إلى قافلة الشُهداء الأبرار، بل حماية لكل مواطن يخشى على حياته وعلى أرزاقه من عصابات الإجرام التي تُشوّه سمعة أهالي البقاع الطيّبين. والأمل كبير أيضًا بأن تُثبت وزيرة الدفاع الجديدة زينة عكر عدره، التي هي أوّل وزيرة دفاع عربيّة وليس أوّل وزيرة دفاع لبنانيّة فحسب، بأنّها "امرأة حديديّة" على خُطى صاحبة هذا اللقب، أي رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر، فتُولي موضوع عصابات البقاع أهميّة كبرى لإجتثاث هذه الظاهرة من جذورها!
(1) الشُهداء هم: الرقيب الأوّل علي نايف إسماعيل، والرقيب الأوّل أحمد كرم حيدر أحمد، والجندي حسن محمد عز الدين، وقد سقطوا جميعًا إثر تعرّض آليّة عسكريّة لكمين مُسلّح ولإطلاق نار أثناء ملاحقة سيّارة مسروقة.
(2) يُقدّر عدد هؤلاء بما لا يقلّ عن 40 مطلوبًا من المُجرمين الفارين الذين يُديرون العديد من العصابات والشبكات الإجراميّة الرئيسة.