لم يكن موقف رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه برّي جديداً بشأن القضية الفلسطينية. اساساً لم يتخلّ هو نفسه عن إلتزامه بثوابت القضية، ولا عن إندفاعه نحو نصرة الفلسطينيين بوحدتهم، وتحرير ارضهم، وعودة اللاجئين الى وطنهم. هو يفعل كلّ ما بوسعه لدعم فلسطين. على الأقل، لم يسترح رئيس المجلس النيابي اللبناني يوماً في جهوده لجمع الصف الفلسطيني: أشرف على مصالحات بين القوى الفلسطينية، وجمع حركتي "فتح" و"حماس" مرات عدة، بعد تباين بين "الأخوة". لم يرض بري أن يخاطب فريقاً فلسطينياً دون غيره، توجّه لهم بالجملة لا بالمفرق، حتى قيل أن برّي يريد وحده أن يُحيي وحدة فلسطينية فرّقتها المصالح، والعواصم، والنزاعات، ولعبة النفوذ. لكن بري الذي أفتى يوماً بمقاومة وقتال إسرائيل بكل الوسائل- من هنا يأتي أصل لقب "مولانا" الذي يُنادى به بري- هو يُفتي الآن بحرمة الصراع الفلسطيني-الفلسطيني. هو "مولانا" نفسه لم يضيّع يوماً بوصلة الصراع بين العرب وإسرائيل، ولم يجهّل مسار القضية الفلسطينية. هي وجهته الأساسية التي لا يخفيها. منها ينطلق في مقاربة موقعه بكل الإتجاهات. قد تختلف مع رئيس حركة "أمل" بشأن تكتيكات سياسية داخلية أو إقليمية او دولية، لكن الذين يخاصموه يعرفون قبل غيرهم أن الرجل لا يُخطئ في الإستراتيجيا منذ إمتهن النضال السياسي، ولا يزال.
أطلق "الأستاذ نبيه" في المؤتمر الطارئ للإتحاد البرلماني العربي الذي إنعقد في الاردن "إمتحان فلسطين، إمتحان القدس، إمتحان العرب، إمتحان المسلمين، إمتحان المسيحيين، وفي الأصل إمتحان الإنسانية". هو الإمتحان الاساسي الذي عبّر فيه عن نبض إنساني يتخطّى مساحات العرب الجغرافية والديمغرافية. ينطلق "الاستاذ" في الإمتحان من دروس التاريخ، ومعطيات الحاضر التي توحي بمستقبل قاتم لفلسطين وجيرانها في لبنان وسوريا ومصر والاردن، ما لم ينجح المعنيون في امتحانهم الديني والدنيوي والأخلاقي والإنساني. فكيف ينجح أولئك يا "أستاذ نبيه"؟.
قال برّي نفسه إنّ "الأمة تتشتّت وتتشظّى على محاور الإحتراب الداخلي، وتضييع البوصلة عن وجهة الصراع الحقيقي مع العدو الأساس(...)". وهي أسباب حقيقة تدفع العرب للإنشغال عن الإمتحان المفصلي الوجودي، والتلهي بسباق وحروب بانت في سوريا والعراق، وشحن طائفي ومذهبي، وتحشيد على الخط الخليجي-الإيراني. فماذا أنتجت غير هدر الدماء، والقتل الجماعي، وتدمير الأوطان، والتهجير، والتكفير، والفقر؟.
طلب بري إرتقاء العرب إلى موقع القضية الفلسطينية بما تعنيه، "وعدم التسلّل والهرولة لخطب ود الجلّاد، وطلب صكوك الغفران من تحت الطاولة او خلف الأبواب الموصدة، لأن فلسطين تحتاج الى الصدق لا الرياء، وأن تكون السيوف معها لا عليها". يلقى هذا التنبيه صدى في فلسطين، وفي وجدان الشعوب، لكن حجم الاحتراب الداخلي الرسمي العربي والاسلامي وتغيير وجهة البوصلة في سياسات دول عدة، يُشغلهم عن فلسطين، التي كادت ان تكون منسية لولا مواقف شعبها وحركاتها الرافضة لصفقة القرن، ثم المواقف التي أُطلقت في مؤتمر الأردن المستندة الى تاريخ وتجارب ومواقع أصحابها.
تعود القضية إلى مسارها، عندما تتراكم مؤشرات، تبدأ بإعادة سوريا الى موقعها الريادي في جامعة الدول العربية، وهو ما يدفع بري ايضاً بإتجاهه عندما يصرّ في كل مرّة على عدم حضور أي مؤتمر عربي لا تُدعى إليه سوريا. ثم بحوار المتخاصمين على طاولة واحدة، تجمع قيادات الإقليم، ووضع خطة تنفيذ حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفرض الدولة الفلسطينية بقوة الحق بالأرض والمقدسات.
أذّن "مولانا" في الأردن، فقال ألاّ مسلمين من دون الأقصى، وقَرَع جرس بيت لحم بتأكيده ألاّ مسيحية من دون كنيسة القيامة. وبينما كان برّي يؤدّي دوره الطبيعي في مؤتمر عمّان، كان يحضر إلى ذاكرتي موقف مطران القدس عطالله حنّا، عندما كنّا نترافق معاً، خلال المشاركة بمؤتمر في القاهرة، يومها أجرينا إتصالاً برئيس المجلس النيابي اللبناني الذي سمع من "مطران القضية" كلاماً يتمحور حول الثقة الفلسطينية بدور برّي: نراهن عليك.