قبل دقائق من نيل الحكومة الثقة في المجلس النيابي، برز كلام رئيسها حسان دياب الذي ألمح إلى تراجعه عن تأييد دفع سندات اليوروبوند، عبر الإشارة إلى أننا "نريد الحفاظ على الموجودات من العملات الأجنبية من أجل أولويات الناس من السلع الحيوية، مثل الأغذية والأدوية والوقود، وقد أبلغنا حاكم مصرف لبنان بهذه الثوابت"، الأمر الذي كان محل أخذ ورد على مدى الأيام الماضية، على وقع تفاقم الأزمة المالية والإقتصادية التي تمر بها البلاد.
حتى الآن، ليس هناك من مخرج واضح لخيار الحكومة الجديدة، في ظل التناقض في المواقف حول ما يمكن القيام به، خصوصاً أنّ جمعية المصارف كانت قد دعت إلى سداد استحقاق آذار في موعده والشروع فوراً في الإجراءَات المطلوبة لمعالجة ملف الدين العام بكامله، على قاعدة أن التخلف عن السداد يشكِّل حدثاً جللاً تتوجّب مقاربته بكثير من الدقة والتحسّب، في حين أنّ الفترة المتبقيّة قصيرة جداً لا تتيح التحضير والتعامل بكفاءة مع هذه القضية الوطنيّة الهامّة.
إنطلاقاً من ذلك، جاء الحديث عن التوجه إلى طلب مساعدة فنيّة من صندوق النقد الدولي في إعادة هيكلة الدين، الأمر الذي يفتح الباب أمام موجة واسعة من التساؤلات، لا سيما حول الفرق بين طلب المساعدة أو الذهاب إلى برنامج مع الصندوق، نظراً إلى أن تداعيات الخيار الثاني قد تكون أكبر من الأول، إلا أنّ أيّ خيار يتطلب أن يدرس بعناية فائقة.
في هذا السياق، يشير الخبير الإقتصادي زياد نصر الدين، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن لبنان بات في أزمة كبيرة جداً، في حين أن هناك رأياً داخل الحكومة يرى ضرورة أخذ رأي صندوق النقد لتغطية أيّ خيار من الممكن أن تذهب إليه بالنسبة إلى الدين الذي يستحق قريباً، على قاعدة أنّ الأمر يطمئن الدائن الخارجي.
وعلى الرغم من أن نصر الدين يميّز بين طلب المساعدة التقنيّة والذهاب إلى برنامج مع الصندوق، حيث أن الخيار الثاني يعني الخضوع لشروط لا يستطيع لبنان تحمّلها، يعرب عن مخاوفه من أن يؤدّي الخيار الأول إلى دخول الصندوق على الواقع الداخلي، وبالتالي الرضوخ إلى شروطه بطريقة غير مباشرة، في حين أن هناك ملف النفط والغاز الذي يحتاج إلى حماية، ويشدّد على أنّ أيّ إستشارة لا يمكن أن تكون صحيحة من دون الجردة الواضحة التي طلبها رئيس الحكومة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
بدوره، يوضح الخبير الإقتصادي كامل وزنه، في حديث لـ"النشرة"، أنّ المشورة تعني أن الصندوق سيقدم نصيحة تقنيّة في كيفيّة إدارة الملف المالي والمديونيّة وكيفية تنظيم الوضع المالي، وفي بعض الأحيان تأتي إنطلاقاً من خبرات مع سوابق مشابهة للوضع اللبناني، وكيف أدار الصندوق العمليّات ومدى الإنعكاسات السلبيّة والإيجابيّة، بينما اللجوء إلى الصندوق بشكل مباشر، يتضمّن بالإضافة إلى ما تقدم الحصول على قروض ماليّة، كما حصل على سبيل المثال مع باكستان، تتزامن مع مطالب محدّدة يكون لبنان ملزم التقيد بها، على عكس ما هو الحال مع المشورة أو النصيحة.
ويرى وزنه أن لبنان بحاجة إلى الإستفادة من إستشارات صندوق النقد ومن الخبرات اللبنانية، من دون تجاهل كشف الوضع المالي بكل شفافية، نظراً إلى أنّ عدم البناء على معلومات مؤكّدة سيكون ضلالا، ويشير إلى أن هذه المهمة تقع على عاتق حاكم مصرف لبنان، لأن المطلوب مصارحة الشعب ليعرف الخطوات المقبلة، التي مهما كانت صعبة لن تكون أصعب من الواقع الحالي.
بين الأمن الغذائي واليوروبوند
من وجهة نظر نصر الدين، المفاضلة اليوم هي بين الأمن الغذائي ودفع سندات اليوروبوند، ويؤكد أن هذا الأمر هو محلّ جدل بين الإقتصاديين ومصرف لبنان والمصارف، في حين من المفترض أنْ يحسم في إجتماع مجلس الوزراء، الذي عليه أن يأخذ قراراً لمصلحة الخزينة العامة وليس لمصلحة الدائنين الكبار الذين حققوا أرباحاً طائلة.
بناء على ذلك، يرفض نصر الدين الذهاب إلى طلب الإستشارة، لا سيما أن في لبنان خبراء قادرين على تقديم المشورة المفيدة ويتم الإستعانة بهم في الخارج، ويرى أن الحكومة تستطيع التفاوض مع الدائنين بشكل مباشر، كما حصل مع العديد من دول العالم، لكنه يشدد على أن ذلك يستوجب التخطيط بطريقة سليمة، ويشير إلى أنّ لبنان لديه الضمانات اللازمة، منها إحتياطات الذهب والبرنامج الإصلاحي للحكومة والثقة بالبيان الوزاري التي نالتها، ويضيف: "الدائن الخارجي سيعطي الفرصة، خصوصاً أنّه عندما يستثمر في البلدان التي واقعها شبيه بالواقع اللبناني يعرف أن نسبة المخاطر مرتفعة، كما أننا لا نقول أننا لا نريد التسديد بل التأجيل".
في هذا الإطار، يعتبر وزنه أن الإجراءات الموجعة ملزمة، مع العلم أن لبنان يقوم بذلك من دون بصيص أمل، بينما مع وجود خريطة طريق يصبح التخطيط أسهل، ويؤكد أن البلاد بأمس الحاجة إلى ذلك، ويشدد على أن هناك إمكانات ضمن التركيبة اللبنانية.
أما بالنسبة إلى الديون التي تستحق في وقت قريب، خصوصاً الدين الخارجي، يرى أن من الضروري الإطّلاع على العقد الموقع عند إصدار السندات، لمعرفة المخاطر التي قد تنجم عن أيّ قرار، ويلفت إلى أنه إذا كان هناك تعاون يمكن الوصول إلى حلول من دون أيّ خلل أو دعاوى قضائية.
في المحصّلة، دخل لبنان، بعد نيل الحكومة الثقة، مرحلة القرارات الصعبة التي لا تحتمل الوقوع في أيّ خطأ بالتقدير، لا سيما بعد أن اضاعت الحكومات السابقة الكثير من الفرص، نظراً إلى أنّ التداعيات ستكون أخطر على كافة المستويات: الماليّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة والسّياسيّة.