قبل اتفاق الطائف، لم يهنأ أي رئيس لجمهورية لبنان بحكم هادئ، فمنذ العام 1952، أي بعد أقل من 10 سنوات على نيل لبنان استقلاله، بدأت الأزمات تتوالى فوق رؤوس رؤساء الجمهورية، والبداية كانت مع بشارة الخوري عام 1952، حيث انطلقت مطالبات استقالته من دير القمر في الجبل، وقدّم الاستقالة في أيلول من ذات العام. في أيامنا هذه اختلف الحال بعد اتفاق الطائف، وقواعد اللعبة السياسية باتت طائفية بامتياز.
من الجبل أيضا، ودارة المختارة تحديدا انطلقت المطالبة بإسقاط عهد رئيس الجمهورية ميشال عون، على اعتبار "أن العهد الذي أثبت فشله في إدارة شؤون البلاد لا يمكنه أن يُدير مرحلة إنقاذ". عاد جنبلاط بالذاكرة الى عام 1952، يوم قام والده كمال جنبلاط ورفاقه بالجبهة الاشتراكية الوطنية التي ضمّت شخصيات قيادية عابرة للطوائف، بالضغط على بشارة الخوري لاجل الاستقالة، ونجحت. طلب جنبلاط ربط الماضي بالحاضر، ولكن ما كان يسري بالامس على الحياة السياسية اللبنانية لم يعد كذلك اليوم، ومن فشل بإسقاط عهد الرئيس السابق إميل لحود بالسياسة، سيفشل بكل تأكيد بإسقاط عهد ميشال عون.
منذ أشهر طويلة، يحاول جنبلاط خوض هذه المعركة، فعلاقاته مع العهد لم تكن يوماً على أحسن حال، لا سيما منذ الإنتخابات النيابية الأخيرة، لكن في المقابل كان دائماً يعود إلى قصر بعبدا، بدليل ما حصل خلال معالجة تداعيات حادثة الشويفات، ولاحقاً حادثة قبرشون، حيث كان رئيس الجمهورية هو الراعي الرسمي لمحاولات المصالحة مع رئيس "الحزب الديمقراطي اللبناني" النائب طلال أرسلان.
اليوم، قد يظن البعض أن رئيس "الإشتراكي" يريد الإستفادة من الواقع الذي افرزته إنتفاضة 17 تشرين الأول الماضي للتصويب على رئاسة الجمهورية، لكن في المقابل بعض الواقعية تؤكد أن هذه المعركة وهمية أو أنها غير قابلة للنجاح بأي شكل من الأشكال، نظراً إلى أن جنبلاط لن يجد حليفاً مباشراً له فيها، من دون تجاهل الامر الأهم وهو طبيعة النظام اللبناني، فالقوى المسيحية الأساسية، من بكركي دينيا الى باقي القوى سياسيا، لن تقبل المسّ بالموقع الأول لها في الجمهورية.
في هذا الإطار، قد يكون من المفيد التذكير بأنه في التاريخ الحديث سعى رئيس "الإشتراكي"، قبل سنوات، إلى خوض مواجهة مماثلة مع الرئيس الأسبق إميل لحود، لكن موقف بكركي حينها كان حاسماً، رغم خلافها الكبير مع الرئيس في السياسة، واليوم ليس من المتوقع أن يكون قد تغير موقف البطريركيّة المارونيّة أبداً، مع مفارقة أساسية هي أن لحود لم يكن لديه حزباً أو تياراً سياسياً داعماً له، في حين أن عون لا يزال يمتلك الحاضنة الشعبية الوازنة، المتمثلة بـ"التيار الوطني الحر" صاحب أكبر كتلة في المجلس النيابي.
بالتزامن، فإن الوقائع الداخلية والإقليمية قد تكون غير مشجّعة، فالمعركة التي كانت في وجه لحود كانت في ذروة قوّة قوى الرابع عشر من آذار، بعد خروج الجيش السوري من لبنان، بينما اليوم على المستوى المحلّي الخلافات تعصف بالفريق المعارض، في حين أن التوازنات الإقليمية تصب إلى حد بعيد لصالح عون، الذي وصل إلى رئاسة الجمهورية في لحظة إنتصار المحور الذي ينتمي إليه.
السؤال الأساسي اليوم، هو ما الذي يريده رئيس "الإشتراكي" من هذه المعركة أو المواجهة؟! لا أحد يملك جواباً واضحاً حول هذا الأمر، باستثناء أن هناك من يرى أنها محاولة لرد التهمة بتأمين نصاب جلسة الثقة، أو السعي إلى رفع السقف عالياً كي لا يتم الإقتراب منه في أي إجراء، لكن الأساس يبقى هو شدّ العصب، وهي اللعبة التي مارسها، في السنوات الماضية، عبر محاولة التأكيد بأن ما يتعرض له هو إستهداف لطائفة الموحدين الدروز.
من هنا يعلم جنبلاط بأن المواقع الرئيسية في الدولة، أي رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة، هي مواقع طوائف لا أشخاص أو أحزاب، وبحال كان لدى أحد شكّ بذلك، فليتطلع الى تجربة رئيس الحكومة الحالي حسّان دياب ودار الفتوى.