تستمرّ سياسات الدول العظمى في تحولات العالم محكومة، بمنطق شيوخ القبائل التي لا يكسركبارها عزّة بعضهم البعض أبداً. هم يديرون العالم بإستراتيجيات القوة والضغط والرضوخ عبر السلطات والسيادة الكونية والتطوّر والتغيير مع الحفاظ الأقصى على مظاهر التخلّف والجمود لدى الغير.
وللمفارقة، ماذا تعني مفاهيم السلطة والسيادة في سبحة الدول في زمن كاميرات التصوير بأحجام الحشرات الدقيقة والطيور الصغيرة التي تنسخ أسرار الدول وأسرّة الحكّام والمواطنين فوق وجه الأرض؟
أين السيادة في خرق الطائرات والقوارب التدميريّة الصغيرة العابرة للحدود من دون قادة، توجّه من بعد هائل خارقةً الحدود الحميمية لتقتل وتدمّر وتراكم الرادارات وأجهزة الإستشعار وأطنان الأسلحة التي تدمّر الشعوب وفيها أجيال من النازحين والجائعين والمتسولين في الأرض يلعبون بمسدسات الماء؟
من يحدّث القوانين الدولية لهذه المخترعات التي لا ذكر لها في مجلّدات الحقوق والمنظّمات أوالقرارات الدولية أو ما كان يسمّى المجتمع الدولي؟ وبالتالي ماذا تعني مصطلحات المجتمعات الدولية بصيغة المفرد أو بصيغة الجمع لطالما باتت مفكّكة يتصارع فيها الراسخون في الماضي أوالقائلون بفقدان الحاضر والداعون لتدميره ؟
ولماذا الكتابة بعد والقصائد والنقد والأسئلة والشكوى عن شعوبٍ تيبس تحت الشمس وتذريها الرياح مع أوّل عاصفة، وفي ذهني فلسطين والعرب حيث تنزلق السلطات العربية والسيادات الدولية فوق السلالم عشوائياً؟
إذا كان السؤآل هو الحياة فالجواب هو الموت المستحيل لتنوع الإجابات وإختلافها ولا نهائيتها. لم يعد هناك من إجابة واحدة عبى السؤآل. قد تحمل الأسئلة براءتها النقديّة التي تفترض التغيير، وهي تتجاوز في سلطاتها الأجوبة والمعارف والأسرار أحياناً، لكن ليس من السهل إمتلاك إمكانيات الإجابات القاطعة بين الكبار والصغار لخطورتها، وخصوصاً عند النقد الموضوعي للآخر وكأنّ الدولة العظمى مثل الديّان تحيل السائل الى الأذيّة والتدمير. وهذا ما يجرّ إلى النزول بالسلطات من الدولة الصغيرة إلى رعاياها. حذّرت دولة عربيّة، على سبيل المثال، وأنا منهمك في التحضير لهذه الورقة ب"محاكمة أي كاتب أو مسؤول مهما علا شأنه يتناول أو يتعرّض للدين بالنقد أو حتّى بالسؤآل الذي يضمر الشكّ العابر في صفحات التواصل الإجتماعي مثل التويتر أو الفايسبوك وذلك تحت طائلة العقاب".
الأمثلة المشابهة كثيرة وغريبة وتتكرّر وتتعاظم مع تحرّر سبّابات المؤمنين وأبنائهم وأحفادهم في حضورهم المباح فوق صفحات وجدران التواصل الإجتماعي اللامتناهية، خصوصاً وأنّها كتابات تجعلهم أشخاصاً آخرين يختلفون عن إمتلاكهم للأصابع المرفوعة في أفراد عائلاتهم وأولادهم المدارس والجامعات أو العاملين في مصانعهم وشركاتهم تقليداً لأهل السياسة والحكام.
من المقبول ألاّ يتقبّل المؤمنون النقد الجريء المجافي للعقيدة وللثوابت ممّا حولهم. هذه المسائل لطالما تجلّت في التفسير والفقه والحديث وعلم الكلام وغيرها والتي هي من صنع البشر ومن حقّ العلم والأسئلة العصرية أن تخضعها للأبحاث التاريخية بحثاً عن الإجابات الملائمة. أستعين هنا بالمستشرق محمد أركون عندما فتح المجال لتصوّر جديدٍ للدين والتراث من خلال فكره التطبيقي المتقدّم في علوم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرها من المعضلات الفكرية التي إنحصرت همّومها في تجديد الفكر العربي والإستشراقي لكي يصبح العديد من العرب والمسلمين أكثر قدرةً وجرأةً على فهم جدلية العلاقة الشاقّة مع العالم ومواجهة التداعيات الخطيرة التي ستبقى تنتظرالمجتمعات المستغرقة في بهجة إستيراد كلّ جديد.
هناك الوحي وهناك التطبيق وهناك الفقهاء الذين يملأون الشاشات والقادرون على إقناع العامّة بفهمهم النهائي للعقائد ومقاصدها بإجتهادات وأحكام يجب أن تتحكّم أبدياً بكلّ تصرف أو تفكير يقوم به الخاضع للإمتحان بهدف الطاعة. لكن يمكن لأعظم الفقهاء أيضاً الوقوع في أخطاء تشوّه الأديان وتدعم مزاعمهم بإمكانية فرض القوانين التي هي وحدها تشكّل مقاصد النصوص.
هذا المناخ المستمر والمنتشرالحافل بالضغط والرقابة الصارمة والإطباق المتشدّد على العقل في الكثير من الميادين بكونه من موروثات "الربيع العربي" اللافتة، نراه يضغط بشدّة غير مقبولة على إمكانيات التفكير والبحث والتعبير.
قد يفهم واحدنا الكثير من المقاربات النقدية سواء اللغوية منها أو التاريخية والتي أقبل عليها العديد من المستشرقين أو المفكرين العرب إذ كتبوا في الغرب ونشروا بلغاته أنّها كانت تترك وراءها موروثات من الأنقاض والتدمير الإجتماعي والسياسي وغير العلمي لمنظومات القيم في بلادٍ عاشت على الثوابت الصلبة قروناً طويلة إلى حدود عزّزت وأورثت الكثير من المغالاة في العدائية والكره المتعاظم بين الشرق والغرب وبين المستشرقين والمستغربين. كان حجم المستحيل ضخماً وهائلاً في طرائق التفكير والنقد الموضوعي، وكان إتّساعه مرعباً بحيث أن أي
بحث من هذا النوع كان يولّد سوء تفاهمات خطرة تستعاد وتضخّم وتتضاعف أصداؤها ويكفّر أصحابها وتهدر دماؤهم.
ويبقى السؤآل:
كيف يبدو مستقبل الدول الصغيرة المصفوفة التي تبني مستقبلها على الصراعات الدينية والحروب والأحقاد والكره والعيش في أنفاق الإنشقاقات؟