بعد غياب طويل عن الشاشات والاعلام، اطلّ رئيس الحكومة السابق النائب سعد الحريري على محبيه، في يوم 14 شباط الجاري. لم يستعرض هذه المرة كما في عزّ "فورة" قوى 14 آذار ثيابه ولا خلعها بأسلوب التحدّي والرؤية المستقبليّة، انما اختار ان يطلّ بمظهر آخر، مظهر "القدّيس"، الا ان الاسلوب الذي اختاره لم يكن موفّقاً باعتراف القريبين منه قبل البعيدين عنه. حاول ان يصوّر نفسه كالحمل الذي سيق الى الذبح على مذبح الوطن، وانه احتمل الشدائد والصعوبات والعذاب من اجل لبنان وانقاذه.
في الكلام، يقف القلب الى جانب رئيس الحكومة السابق وتصطفّ المشاعر لتحيته على ما فعله، ولكن في الواقع فإنّ الامور ليست بهذه البساطة، فهو كان على غرار الآخرين مشاركاً في الحكم والحكومة والقرارات والتسويات، واذا كانوا هم "شياطين" فالامر ينطبق عليه ايضاً، واذا كانوا "قدّيسين" فعندها سيكون هو ايضاً كذلك. لسنا في موقف تصنيف المسؤولين، وانما تناسي حقبة كاملة من الزمن لقاء غياب عن الساحة لاشهر قليلة، لا يعطي هذا الغائب الحقّ في اخراج نفسه من المعمعة السائدة. وكما كان متوقّعاً، فقد استهدف الحريري الوزير السابق جبران باسيل ومن خلفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. لن يختلف اثنان على ان باسيل اخطأ في الكثير من الامور، ولكن هل يجوز تحميله وحده المسؤوليّة؟ الا يذكر الحريري نفسه كيف امتعض منه رفاقه في قوى 14 آذار -ليس بسبب مواقفه السياسية القريبة من التيار الوطني الحر والرئيس عون- بل بسبب تخلّيه عن الجميع وتنسيقه مع باسيل في كل الامور؟ هل نسي الحريري انّ احداً لم يجبره على القبول بالعديد من التعيينات التي حصلت خلال تولّيه رئاسة الحكومة اذا لم يكن راضياً عنها، ومنها تلك التي اتت بقريبين منه الى مناصب في الدولة؟ لماذا لم يستقل رئيس الحكومة آنذاك و"يفجّر" ما في مكنوناته ويصلح البلد كما يريد ان يفعل اليوم، في وقت لم تكن الازمة قد استفحلت بعد، وكان من الممكن تدارك الكثير من الامور وتصحيحها كي لا نصل الى هذه النقطة؟ اليس الحريري نفسه هو الذي قاتل حتى الرمق الاخير كي يبقى في منصبه و"تبجّح" بقرارات الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء قبل الاستقالة واعتبرها "انجازاً" لم يسبق له مثيل واتى على وقع نزول الناس الى الشارع؟ لماذا لم يستغلّ الحريري علاقاته العربيّة والدوليّة في حينه لمساعدة لبنان واظهار مدى "الظلم" الذي كان يتعرّض له، بحيث كان التدخل الخارجي (وخصوصاً الفرنسي) قادراً على احداث "صدمة ايجابيّة" لدى اللبنانيين و"تليين" موقف عون وباسيل في حقّ رئيس تيار المستقبل؟.
ألم يسمع الحريري المتظاهرين يطالبون باستقالته، ليس من اجل تمييزه عن المسؤولين الآخرين، بل ايماناً منهم بأنه جزء اساسي من التركيبة السياسية التي باتوا ناقمين عليها؟ واذا سلّمنا جدلاً انّ المشكلة كانت محصورة فقط بباسيل، فلماذا لم يستطع الحريري اعادة لمّ شمل قوى 14 آذار الى جانبه، وهو الذي اعتُبر في وقت من الاوقات "عصب" هذه القوى وعمودها الفقري؟ وهل كل من يخالفه الرأي بات ايضاً خارج "ملكوت الحريري" وضمن فئة "الشياطين" على غرار ابن عمّته نادر الحريري الذي خرج من مطبخ الحريري ولم يعد بعد؟!.
لا تعدو مواقف الحريري الاخيرة سوى محاولة القاء لوم على باسيل والعهد، لانّهما حالياً محطّ انتقاد من قبل الحراك الشعبي، فقط لا غير. ولو كانت النقمة على غيرهما، لكان المعني تحوّل الى "شيطان" ايضاً. لن يجد رئيس الحكومة السابق طريقه الى الحياة السياسية مجدداً الا بعد ان يعترف انه يتحمّل جزءاً مهماً من المسؤوليّة، ولم يكن يوماً "ينأى بنفسه" عن كلّ الاخطاء التي ارتُكبت في السنوات الثلاث الماضية كما في تلك التي سبقتها، عندها قد يصبح من الاسهل ربما اقناع من يجب اقناعهم بأنّه تغيّر وهو مستعدّ لبدء مرحلة جديدة.