يكثر الحديث عن دفع الحكومة اللبنانية فوائد قروض كانت قد أخذتها بالعملات الأجنبية (المعروفة باليوروبوند) بين مؤيّد للدفع والمعارض له، وبين من يرغب الدفع للجهات الأجنبية ويعارضه لحامل السندات اللبناني، وبين من يقول بوجوب تفاوض الدولة مع دائنيها كافة لإعادة جدولة الديون وتأجيل دفع أية سندات خلال الأعوام الثلاثة أو أكثر المقبلة، وهو الرأي الأكثر حكمة، وذلك مع إيجاد إستراتيجية واضحة وسهلة التطبيق للنهوض الاقتصادي على مدى محدد زمنياً.
إلا أنه وفي جميع الحالات، وبالنظر إلى تجارب سابقة بدأت مع مطالبة الدولة اللبنانية في أواسط الثمانينات لحاكم مصرف لبنان حينها ميشال الخوري بتمويل شراء طائرات قديمة الطراز أطلق عليها "البوما" على أنها فرنسية إلا أنها كانت قد صنعت في رومانيا وشحنت وبيعت على أنها فرنسيّة مع أن المعمل الفرنسي كان قد توقّف عن صنع طائرات البوما عام 1980 (بالإستناد إلى محضر الجلسة الرابعة للجنة التحقيق البرلمانية) بقيمة 250 مليون دولار وكانت حينها جلّ إحتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية، ما ساهم في تجميد قدرات المركزي على التدخل في سوق النقد لحماية سعر صرف الليرة اللبنانية حينها، وما أدى بالتالي في إنخفاض دراماتيكي هائل لسعر صرفها مقابل الدولار الأميركي، وانهيار للقدرات الشرائية لآلاف المواطنين في القطاعين العام والخاص الذين يأخذون رواتبهم بالليرة، كما أدى لمقتل العديد من المعترضين على الوضع المعيشي فيما بعد.
وفي خضمّ الحديث عن عدم وجود دراية كافية عن الشفافية المالية، إلا أنه وبالإستناد إلى تقرير منشور عبر موقع وزارة المالية اللبنانية أخيراً، يظهر أن عن حجم الدين العام خلال شهر تشرين الثاني 2019 يساوي 134,888 ألف مليار ليرة يقسّم بين 84,277 ألف مليار ليرة للدين الداخلي، 50,611 ألف مليار ليرة للدين الخارجي، ويظهر أن حجم إحتياطي الدولة اللبنانية في مصرف لبنان وفي المصارف التجارية 13,454 ألف مليار ليرة منها فقط 7,974 في مصرف لبنان.
وبالتالي، يجب التفريق:
أولاً-بين أموال الدولة اللبنانية العائدة لها التي يوجد جزء منها في مصرف لبنان والناتجة عن إيراداتها الضريبية وأرباحها إن وجدت، والتي هي حسب وزارة الماليّة بقيمة 13,454 ألف مليار ليرة (أي ما يعادل 5.6 مليار دولار أميركي حسب سعر الصرف 2400 ليرة للدولار الأميركي)، وبالتالي كيف يمكنها أن تدفع إستحقاقات بقيمة تتجاوز احتياطاتها خلال عام 2020 ومن أين ستموّل: دفع أجور القطاع العام؟ دفع شراء المحروقات لكهرباء لبنان؟ ودفع إيجار الأبنية التي تعمل منها وغيرها من المصاريف والنفقات الإجبارية؟.
ثانياً-بين إحتياطي مصرف لبنان العائد له والناتج عن تدخّله في سوق القطع منذ تثبيت سعر الصرف عام ١٩٩٧ ولغاية ما قبل أيلول ٢٠١٩ مع إيرادات عملياته في الأسواق المالية وغيرها، والتي هي وحسب إدارة المحاسبة في مصرف لبنان تعادل 55,262 ألف مليار ليرة بالعملات الأجنبيّة، إلا أنها تختلف حسب أيّ عملات وكيف احتسبت بناء على أيّ سعر صرف واحتياطي الذهب المقدّرة 286.6 أطنان أو 10,116,572 أونصة المقدّر سعرها يوم 17 شباط بقيمة $1,585.95 للأونصة وبالتالي تصل قيمتها إلى حوالي 16 مليار دولار أميركي.
ثالثاً-هناك احتياطيات المصارف المودعة في مصرف لبنان، والتي في جزء منها إحتياطي إجباري تعادل قيمة من رأسمالها وهي ضمانة للمودعين في حال أخفق أي مصرف عن القيام بالتزاماته تجاههم، والمودع، جميع المودعين وخاصة صغارهم ومتوسطيهم في حال كانوا أفراداً ولم يكن لديهم أيّة مصادر دخل إضافيةّ، قد تكون ناتجة عن تعويضات تقاعدهم، أو في حال كانوا مؤسسات صغيرة ومتوسطة، فتمثل كاحتياطي لهم لدفع رواتب موظفيهم، ولتمويل سيرورة عملهم خلال الأزمة الحالية وقيامتهم وعودتهم للنشاط الاقتصادي فيما بعدها.
وبالتالي لا يحق لمصرف لبنان التضحية بأمواله أو بأموال المودعين لدفع أية إستحقاقات على الدولة اللبنانية! خاصة أن جزءا من تلك الأموال كان قد صرف في إطار محسوبيّات التمويل، وفي الفساد وفي الإثراء غير المشروع لطبقة حاكمة! كما لا يمكنه التصرّف بأمواله وبأموال المودعين في تسديد أيّة أعباء حكوميّة مستقبليّة كدفع أجور القطاع العام التي هي في جزء منها محسوبيّات وتمثل بطالة مقنعة غير منتجة، أو في دعم لسلع رئيسية غير منضبطة تصل لبعض المحتكرين! خاصة أن أموال المركزي هي ضمانة للنقد الوطني كي لا ينهار سوق القطع ولا تنخفض قيمة العملة الوطنية أكثر مما هي الحال عليه اليوم.
وبالتالي إذا كان الحلّ هو في دفع سندات الدولة اللبنانيّة فمن أين ستدفع؟ ومن أموال من؟.
يبقى الحل العقلاني والمنطقي إذا ما أرادت وزارة الماليّة الدفع، أن يكون من أموالها هي، لأنها المسؤولة عن السياسات الماليّة وهي التي رتّبت الدين العام، وهي المسؤولة عن دفع إستحقاقاته، وذلك في إطار خطّة شاملة تمكّنها من ضبط نفقاتها وضمان زيادة إيراداتها وتنويعها وضمان عدالتها. إلا أن الحلّ الأكثر جدّية هو في التفاوض مع الدائنين على الدفع ولكي لا يتم مراكمة ديون إضافيّة وذلك على مدى زمن محدّد بالمساواة مع إجراءات جراحيّة للإقتصاد، في شقّيه المالي والنقدي؛ خاصة أن أي دفع ومن دون مفاوضات قد يؤدّي إلى تعرض لبنان للحجز على أملاكه ومنها إحتياطي مصرف لبنان من الذهب المودع في الخارج. وفي حال كان الدفع من احتياطي مصرف لبنان فذلك يرتّب دينا عليها له؟ إلا أننا نكون أمام إستمرار للسياسة السابقة حيث لا المركزي باستطاعته فرض إصلاحات في السياسة الماليّة مقابل الدفع، ولا هو بقادر على القيام بإصلاحات نقديّة وإلا لكان فعل خلال السنوات السابقة.
*باحث ومستشار إقتصادي