تَملِكُ الحكومةُ اللبنانيّةُ الجديدةُ رصيدًا يُعطى لها بالتَقنين كسحوباتِ المودِعين من أرصدتِهم في المصارف. هم: مالُهم موجودٌ وسقفُ سُحوباتِهم محدود. وهي: الثقةُ النيابيّةُ بها موجودةٌ وحرّيتُها بالتصرّفِ بها محدودة. لكنَّ الحكومةَ هُنا، وأصبح تأييدُها ومعارضتُها وراءَنا. مَن مَنحَها الثقةَ أيّدَها، ومَن حَجبَها عنها مَنحَها فرصة. أما المجتمعان العربيُّ والدوليُّ فرَحّبا بتأليفِها ولم يؤيّدا هُوّيتَها. يبقى أنَّ مشكلةَ هذه الحكومةِ هي مع عَرّابيها ومؤيّديها أكثرَ مما هي مع معارضيها. ومعارضتُها الجِديّةُ أصلًا خارجيّةٌ، فيما المعارضةُ الداخليّةُ فاقدةُ الصدقيّةِ والعَصَب.
ظُهِّرَت هذه الحكومةُ على أنّها نتاجُ الصراعِ بين السلطةِ والثورةِ في لبنان وأنّها شُكّلَت كُرمى لعيونِ الثوّار، بينما هي عمليًّا نتاجُ الصراعِ بين أميركا وإيران في لبنان والشرق الأوسط. سَجّلَت السلطةُ نُقطةً على الثورةِ، وإيران نقطةً على أميركا. ويُعجِبُني هنا الّذين استَغربوا زيارةَ رئيسِ مجلسِ الشورى الإيرانيِّ علي لاريجاني، فهل كانوا يَتوقّعون زيارةَ وليِّ العهدِ السعوديِّ الأمير محمد بن سلمان لهذه الحكومة؟
لكنَّ هاتين النُقطتَين ليستا ذاتَ شأنٍ في الصراعِ المصيريِّ والطويل. لسنا، مع الأسف، في صراعٍ يُحسَمُ بالنقاط، بل بالضربةِ القاضية، حتّى لو حصل حلٌّ سياسيٌّ... والفوزُ النهائيُّ ليس مضمونًا للجانبِ الأميركيِّ مع أنَّ موازينَ القِوى لمصلحتِه. موازينُ القِوى لا تكفي من دون توازنٍ سياسيٍّ أميركيّ، ومن دونِ إرادةٍ ثابتةٍ بالذَهابِ إلى النهاية. ولا نُغفِلَنَّ أنَّ أيَّ تقصيرٍ في الموقفِ الأميركيِّ قد تعوّضُه إسرائيل عسكريًّا. وفي جميعِ الأحوال، يَدفع لبنانُ الثمنَ في حين المتصارِعان، إيران وأميركا وهما صديقان للبنان، يعلنان حِرصَهما على استقلالِ لبنان واستقرارِه وحرّيتِه وازدهارِه. ومِنَ الصداقةِ ما قَتل.
بحكمِ تكوينِها الطريِّ تَفتقِدُ هذه الحكومةُ القدرةَ على مواجهةِ الصراعاتِ الداخليّةِ والخارجيّةِ الآخِذةِ في الاتّساعِ والعسكرةِ في المديَين القريبِ والمتوسط. وما التصريحاتُ الأميركيّةُ والإيرانيّةُ والإسرائيليّةُ والتركيّةُ سوى دليلٍ علنيٍّ على النيّاتِ العسكريّةِ الـمُضمَرة. وخِطابُ السيد حسن نصرالله يومَ الأحدِ الماضي (16/02) يؤكّد هذا المنحى بوجهَيه اللبنانِّي والإيراني. فنصرالله كان يَتكلّمُ كأمينٍ عامٍّ لحزبِ الله من جهة، وكخليفةِ قاسم سليماني في إدارةِ التمدّدِ الإيرانيِّ في دولِ المشرق من جهةٍ أخرى. وفي الصِفتَين تَتناقَض مواقفُه مع مصلحةِ الحكومةِ، لئلّا نقولَ مع مصلحةِ لبنانَ.
طريفٌ أنْ يَضعَ السيّدُ حسن نصرالله نفسَه في تصرُّفِ الحكومةِ ويُعطي توجيهاتِه للأطرافِ السياسيّةِ كافةً لدعمِها، فيما مواقفُه تَقضي على فرصِ نجاحها. فكيف للحكومةِ أن تَكسِبَ دعمَ دولِ الخليج والغربِ الضروريَّ، باعترافِه، لنجاحِها، ويَشُنُّ، بالمقابل، حملةً على دولِ الخليج، ويؤكّدُ مشاركتَه في حروبِ المِنطقة، ويدعو إلى مقاطعةِ المنتَجاتِ الأميركية، وتغييرِ معاييرِ نظامِ التبادلِ التجاريِّ العالميّ؟ سنةَ 2000 فكّرت دولُ مجلسِ التعاونِ الخليجي إضافةَ "الأورو" إلى "الدولار" كمرجِعٍ نقديٍّ آخَر في تعاملاتِـها الدوليّةِ، فهدّدَتها واشنطن وضَيّقَت عليها حتى أشاحَت عن الفكرةِ جُملةً وتفصيلًا.
تجاه هذا الواقعِ ليس أمامَ الحكومةِ اللبنانيّةِ سوى الخِيارِ بين السيرِ بمنطقِ حزبِ الله وحلفائِه، أو قلبِ الطاولةِ. الخِيارُ الأوّل مصيرُه الفشل، فيما الخِيارُ الآخَر يَفتح لها فرصَ الإنقاذِ الذاتيّ والوطنّي. وبين الخِيارين نرى الحكومةَ في ضَياعٍ حيالَ القراراتِ السياسيّةِ والاقتصاديّة رغمَ رغبةِ رئيسِها وبعضِ وزرائِه في الانعتاقِ من أسْرِ التأليف. غير أنَّ هذه الرغبةَ تبقى ــ حتى الآن على الأقّل ـــ مجرَّدَ "ضِيقةٍ نفسانيّةٍ" لا ترقى إلى مرتبةِ الفعل. إنّه المأزِقُ الذي يُعطّلُ الحلول.
هذا الأسبوع اقترح السيد حسن نصرالله فكرةَ الفصلِ بين السياسةِ والاقتصادِ، واقترحَ تأليفَ لَجنةٍ تَضمُّ جميعَ الأطرافِ اللبنانيّةِ "لمعالجةِ الوضعِ المتدهوّر في البلد". إذ يُذكّرنا هذا الاقتراحُ بسابقٍ عَرَضه سنةَ 2014 بفصلِ دورِ حزب الله في سوريا عن دورِه في لبنان، يستحيلُ تحقيقُ الفصلِ بين السياسةِ والاقتصادِ فجميعُ مشاكلِنا سياسيّةُ المصدَرِ. وعبثًا نسعى لأن نَجِدَ لها عِلاجاتٍ تقنيّةً ما لم تُغيّر الدولةُ اللبنانيةُ خياراتِها السياسيّةَ وتَموضُعَها الإقليميّ. وما دامت لَجنةٌ تُذكّرُ بأخرى، لماذا لا يَقبلُ السيد نصرالله تأليفَ لَجنةٍ لوضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةِ لمعالجةِ وضعِ سلاحِ حزبِ الله الذي يُشكّل إشكاليّةً للدولةِ ولعلاقاتِها الخارجيّة؟
في عِزِّ الحربِ، إبانَ احتدامِ الاحتلالاتِ الفِلسطينيّةِ والسوريِّةِ والإسرائيليّةِ، ظلَّ لبنانُ محافِظًا على توازنٍ في عَلاقاتِه العربيّةِ والدوليّة، وكانت الدولُ تَتسابقُ لزيارتِه واستقبالِ قادتِه وتأليفِ لجانٍ لإنقاذه. أما اليوم، ولأوّلِ مرّةٍ في تاريخِنا الحديث، العالمُ يَهجُرنا والأشقّاءُ يَتحاشُونَنا والأصدقاءُ يُعاقبونَنا. لذلك، لم يكن المطلوبُ حكومةَ اختصاصيّين أو سياسيّين أو مختلطةً، بل خِيارًا وطنيًّا جديدًا يُعيد لبنانَ إلى ذاتِه وأصالتِه ومحيطِه والعالمِ، ويُخرجه من عُزلتِه والانهيار. واجِبُ لبنان أنْ يُقدِمَ ويَحضُرَ لدى الدولِ الكبرى ليضمَنَ وِحدةَ كيانِه. حين كنا جماعةً من دون دولةٍ اقتحَمنا المؤتمراتِ الدوليّةَ وأَنْشأنا دولةً؛ فكيف، وقد أصحبنا دولةً، لا نَستطيعُ التعاطي مع مراكزِ القرارِ الدوليّ لضَمانِ الجماعة؟
حانت اللحظةُ التاريخيّةُ أن نعلنَ بكلِّ صراحةٍ ومسؤوليّةٍ ومن دونِ روحٍ عَدائية أنّنا لسنا معنيّين بحروبِ المِنطقةِ وصراعاتِها. من يريدُ أنْ يُدمِّرَ إسرائيل فليُدمّرْها وحدَه، ومن يريدُ أنْ يَطردَ أميركا من الشرقِ الأوسط فليُطْرُدْها وحدَه، ومَن يريدُ أنْ يحاربَ دولَ الخليجِ فليُحارِبْها وحدَه، ومن يريدُ أنْ يُعمِّمَ ثقافةَ الحربِ والموتِ والاستشهادِ العبثيِّ فلْـيُعمِّمْها وحدَه. ولَيفعل كلَّ ذلك من خارجِ الأراضيِ اللبنانيّة. نحن نريدُ أن نبنيَ لبنانَ على أسسٍ وقيمٍ مختلفةٍ عن المشروعِ الإيراني وعن سائرِ مشاريعِ دولِ المنطقة. لا نَتمنّى إلا كلَّ الخيرِ لإيران، بل لا نَتمنّى إلا أفضلَ العَلاقاتِ معها، لكنّنا لا نَستطيعُ أن نَتحمّلَ مشروعَها حتى لو أردنا... وهاكمُ الدليل.
غالبيّةُ اللبنانيّين الساحقةُ قرّرت أن تعيشَ بسلامِ مع أهلِها وبيئتِها ومحيطِها ومع إيران. لم يكن السلاحُ يومًا رأسمالَ لبنان، وأصلًا ليس السلاحُ رأسمالَ الشعوبِ المتحضِّرة. السلاحُ زينةُ الرجالِ، والنساءِ أيضًا، في ردِّ عدوانٍ لا في استحْضارِه.
لا نُحمّلُ الحكومةَ الحاليّةَ مسؤوليةَ رفعِ جميعِ هذه التحديّات، لكنّها في كلِّ الأحوالِ أمامَ خِيارِ الدخولِ إلى المستقبلِ أو البقاءِ في الماضي، وخِيارِ استعادةِ صداقاتِ لبنان أو الإبقاءِ على عُزلتِه... وعُزلتِها.