إنه أوان اتخاذ القرارات الجريئة القادرة على وقف الانهيار الاقتصادي والمالي، الذي تسبّبت به سياسات الريع والاستدانة، التي أدّت الى ثلاث نتائج خطيرة:
النتيجة الأولى، تدمير الإنتاج الوطني، وجعل البلاد تعيش على استيراد 90 بالمئة من احتياجاتها من الخارج، مما أحدث خللاً خطيراً في الميزان التجاري، بين الصادرات والواردات، حيث بات لبنان يستورد بما يقدّر بـ 20 مليار دولار سنوياً، ويصدّر فقط بنحو ثلاثة مليارات دولار، مما استنزف احتياطات مصرف لبنان من العملات الصعبة…
النتيجة الثانية، إغراق لبنان بدين كبير بلغ نحو 90 مليار دولار، هذا الدين تكوّن:
1 ـ بفعل سياسة سوّقت للاستدانة تحت عنوان إعادة إعمار ما دمّرته الحرب الأهلية، وإقدام مصرف لبنان على تثبيت سعر الصرف، عبر إصدار سندات دين بفوائد مرتفعة، وصلت في التسعينيات الى نحو 45 بالمئة، ومن ثم إقدام حاكم مصرف لبنان على تنظيم هندسات مالية لمصلحة بعض البنوك التي حصدت أرباحاً تجاوزت 5،5 مليار دولار.. مما استنزف المزيد من الاحتياط لدى مصرف لبنان وجعله، بعد اشتداد الحرب الاقتصادية، التي شنّتها الولايات المتحدة لحصار لبنان مالياً، يفقد القدرة على مواصلة سياسة التدخل في السوق لتثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار.. ولهذا أصبحنا أمام سعرين للصرف، واحد رسمي المحدّد بـ ١٥٠٠ ليرة للدولار الواحد، وآخر غير رسمي يتحرك صعوداً وهبوطاً وبات يناهز الـ 2.300 ليرة للدولار الواحد..
2 ـ إشاعة الفساد، والتشجيع على سرقة المال العام، من خلال اعتماد التلزيمات بالتراضي، وإلغاء دور دائرة المناقصات، وأجهزة الرقابة والمحاسبة، وهو ما أدّى إلى تضخيم قيمة العقود والعمولات من ناحية، وإقدام المتعهّدين على عدم تنفيذ المشاريع وفق دفاتر الشروط…
٣– الخصخصة للقطاعات الرابحة التي تدرّ عائدات هامة على خزينة الدولة، مثل البريد والبرق والهاتف، والسوق الحرة والخدمات العديدة في المطار، وتخلي الدولة عن استيراد النفط والغاز والفيول، وعدم إعادة تأهيل مصافي النفط…
النتيجة الثالثة، انهيار في القدرة الشرائية للناس مما فاقم أزماتهم المعيشية والاجتماعية وادّى إلى زيادة منسوب الفقر لدى السواد الأعظم من اللبنانيين، وفي المقابل فإنّ الكثير من المؤسسات والمحال التجارية أقفلت أبوابها وصرفت موظفيها الذين انضمّوا إلى جيش العاطلين من العمل الأمر الذي زاد من نسبة البطالة، وحدة الأزمة الاجتماعية.. هذا الى جانب قرار المصارف احتجاز أموال اللبنانيين لديها، والدفع لهم بالقطارة.. في وقت أقدم فيه أصحاب المصارف على إيداع جزء كبير من أموالهم وأموال اللبنانيين لديهم خارج لبنان مما فاقم الأزمة النقدية، وأسهم في تسعير المضاربة في سعر صرف الدولار الذي لم يعد بالإمكان الحصول عليه إلا من الصرافين وبأسعار السوق الموازية..
في مواجهة هذه النتائج الثلاثة للأزمة، فإنّ الحكومة الجديدة المنكبّة على البحث عن سبل التصدّي للأزمة، لوقف الانهيار، عليها ان تدرك جيداً انه من غير الممكن وقف الانهيار والنهوض بالاقتصاد المنهار والحدّ من الأزمة المعيشية، من دون الاقدام على اتخاذ الخطوات الجريئة التالية:
الخطوة الأولى، وضع حدّ للسياسات الريعية المسؤولة عن هذه النتائج الكارثية، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً، واعتماد سياسات تقوم على التنمية الاقتصادية، التي يشكل الإنتاج الزراعي والصناعي ركيزتها الأساسية، فمن دون إعادة النهوض بالإنتاج لا يمكن الحديث عن إخراج البلاد من حالة اقتصاد صفر نمو، لا بل تحت الصفر، الى حالة النمو الذي ينتج الثروة ويخلق فرص العمل، ويردم الهوة السحيقة في الميزان التجاري، بحيث يزيد التصدير ويتراجع الاستيراد.. لكن لتحقيق هذا النهوض بالإنتاج الزراعي والصناعي، يجب على الحكومة ان تسنّ التشريعات والقوانين، التي تدعم وتحمي الإنتاج الوطني، وتوجد له أسواق للتصدير.. والمجال الحيوي لتصدير الإنتاج اللبناني هو الأسواق العربية التي تشكل سورية أساسها والبوابة للوصول إليها، لا سيما السوق العراقية التي تستوعب كلّ الإنتاج اللبناني..
الخطوة الثانية، وضع حدّ للاستدانة، وإعادة هيكلة الدين الداخلي والخارجي، على غرار ما فعلت الكثير من الدول التي تعثرت في سداد ديونها، وبالتالي حسم جزء أساسي من الدين، وتأجيل دفع المتبقي لسنوات قادمة يكون خلالها لبنان قد نجح في إحداث نمو في الاقتصاد، وفي تحسين إدارة موارده.. واستعادة موارد الدولة الأساسية التي أعطيت لشركات خاصة، لا سيما استيراد النفط والغاز والفيول من دولة صديقة وإصلاح المصافي، وحلّ أزمة الكهرباء بما يضع نهاية للعجز الذي تسبّبه في الموازنة، وتحصيل حقوق الدولة في الأملاك البحرية والنهرية والعقارية…
الخطوة الثالثة، الى جانب الإسراع في سنّ قوانين تعنى بمحاربة الفساد والفاسدين، واستقلالية القضاء، وإنشاء محكمة متخصصة في الجرائم المالية ورفع الحصانات عن الوزراء والنواب والمسؤولين في إدارات الدولة، الحاليين والسابقين، بما يسمح بمساءلتهم، والتحقيق مع كلّ من يثبت ضلوعه في مدّ يده على المال العام ومحاكمته، واسترداد أموال الدولة منه..
الخطوة الثالثة، فرض قانون التضامن المجتمعي، الذي يلزم أصحاب الثروات وكلّ الذين حققوا العائدات الكبيرة من سندات الخزينة، لا سيما المصارف، بالمساهمة المالية لحلّ الأزمة المالية، وهذا الأمر لجأت إليه كلّ الدول التي وقعت في أزمة اقتصادية ومالية حادة، أو تعرّضت لحرب مدمّرة..
الخطوة الرابعة، الاستعانة بكلّ الدول الصديقة المستعدة لتقديم المساعدة للبنان من دون شروط، وبالتالي قبول المساعدة التي تعرضها هذه الدول، طالما أنها غير مشروطة، ولا يجب أن تخضع الحكومة لأيّ ضغوط في ذلك، فهي تستطيع أن تقول لأيّ دولة تعترض مثلاً على قبول مساعدات تعرضها الصين او إيران او روسيا، لحلّ مشكلات الكهرباء والنفايات والطرقات، وإنشاء شبكة لسكك الحديد وأنفاق إلخ… وتزويد لبنان بالنفط والغاز والفيول والكهرباء لسنوات قادمة بتسهيلات بالأسعار والدفع المؤجل، بالقول لها، لماذا لا تقدّمي لنا البديل، وهذا ينطبق على السعودية والولايات المتحدة والدول الغربية التي تمتنع عن تقديم المساعدة في هذه المجالات، وعندما يعرضون مساعدة يربطونها باستجابة لبنان لشروط تتعارض مع سيادته وأمنه واستقراره وحقوقه في أرضه وثرواته…
من هنا فإنّ الحكومة لديها بدائل، تستطيع الاستفادة منها، لوقف الانهيار والنهوض بالاقتصاد الإنتاجي، وكلّ ما تحتاج إليه الإرادة والعزم والتصميم، وأخذ القرارات الجريئة، لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي وأزمته المالية.