ينظر أهل القرار في لبنان ومعهم غالبية الشعب اللبناني إلى صندوق النقد الدولي على انه منقذهم من الأزمة المالية التي يتخبّط بها البلد، وهم يعولون على الوفد الذي وصل إلى لبنان من قِبل الصندوق لتقديم النصائح والمشورة لانتشال لبنان من قعر البئر المالي والاقتصادي الذي بلغه في الأشهر الماضية نتيجة تراكم سنوات من السياسات المالية الخاطئة التي قام بها مصرف لبنان وغالبية المصارف.
والمدرك لحقائق الأمور يعلم علم اليقين ان وفد الصندوق الذي وصل إلى لبنان لا يحمل حلولاً سحرية للأزمة في لبنان، كما انه لا يحمل خططاً مساعدة للخروج من الأزمة، بل إن جل ما سيقدمه بعض النصائح التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والخوف كل الخوف ان ينصب هؤلاء بعض الأفخاخ المغرية التي ستزيد حتماً الطين بلة على مستوى المزيد من الغرق في الديون.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى ان صندوق النقد الدولي يُعد منظمة مدرجة تحت منظومة الأمم المتحدة، وقد انشئ بموجب معاهدة دولية في العام 1945، وهو يُعد المؤسسة المركزية الأقوى في النظام النقدي الدولي. تأتي أموال هذا الصندوق من الدول الأعضاء فيه، وتتربع الولايات المتحدة الأميركية على عرش هذا الصندوق حيث تبلغ حصتها ما يفوق الـ17 بالمئة.
ويلفت مؤلف كتاب «الاغتيال الاقتصادي للامم» جون بيركنز إلى دور الصندوق كأحد أدوات بناء امبراطورية عالمية تسيطر من خلالها منظومة الشركات الكبرى على اقتصاد العالم، من خلال أخطر الوظائف في العالم، التي تتمثل في نهب وتدمير اقتصاد الدول النامية، والهدف من ذلك استمرار تبعيتها للسياسة المالية العالمية، التي تدير المنظمات والشركات والبنوك، وبناء على ذلك توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول النامية المستهدفة، بغرض تطوير البنية الأساسية واصلاح الاقتصاد.
ومن خلال إلقاء نظرة على دور الصندوق في بعض الدول التي تعرّضت لأزمات مالية مشابهة للأزمة التي يعيشها لبنان راهناً، كالبرازيل، واليونان، والارجنتين تبين ان هذا الدور لم يكن بريئاً، حيث دفعت هذه الدول عشرات المليارات لفوائد القروض الأجنبية، لا بل ان دور الصندوق في هذه الدول كان من منطلق فرض شروط تدخل واضح في سيادة هذه الدول وهو ما أدى إلى سيطرة المؤسسات المالية العالمية على العديد من الدول داخل افريقيا وأميركا اللاتينية، وقد جاءت شروط الصندوق بمثابة احتلال اقتصادي لهذه الدول، وقد وصل التدخل إلى مرحلة وضع اليد على العقد الاجتماعي للدولة ومثال على ذلك ما حدث في تجربة البرازيل.
حيال ما تقدّم فإن أي دور لصندوق النقد الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية بصورة أساسية لا يُمكن ان ينتج عنه الا المزيد من افقار للشعوب ووحل اقتصادي للأجيال القادمة، وهذا يتطلب من المسؤولين في لبنان التعاطي بحذر شديد مع ما سيطرحه وفد صندوق النقد الدولي وعدم وضع كل «البيض في سلته»، لأن في ذلك مخاطر كبيرة على الوضع المالي والاقتصادي الذي يعيش اليوم أشبه بالموت السريري، وان أي دعسة لبنانية ناقصة ستشكل خطراً حتمياً على الكيان اللبناني برمته، وسيجعل مسألة السيادة في دائرة الخطر الشديد.
من المعلوم ان الحكومات السابقة لو انصاعت إلى نصائح بعض الدول منذ مُـدّة طويلة وقامت برزمة إصلاحات أبرزها وقف الفساد، ومنع نهب مالية الدولة لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، واما قد حصل ما حصل اليوم حيث بلغ لبنان مرحلة الانهيار الشامل، فإن الفرصة ما تزال سانحة وان بشكل ضئيل للتعافي شيئاً فشيئاً من هذه الأزمة، واولى الخطوات التي يجب الاقدام عليها هو إعطاء القضاء الدور الحقيقي بعيداً عن أية عملية تسييس لوضع يده على الملفات المالية والبدء بزج المرتكبين في السجون، ووضع خطة شاملة متكاملة للشروع في عملية إصلاحات، حيث ان مكامن الهدر والفساد معروفة، وكذلك فإن عشرات المرتكبين والناهبين للمال العام معروفين بالأسماء حتى ان عناوين منازلهم واعمالهم معروفة من قبل القضاء والأجهزة الأمنية، حيث لم يعد جائزاً التعمية عن ذلك بعد ان بلغ التدهور الاقتصادي والمالي ارفع مستوى له منذ الاستقلال إلى اليوم.
ووفق المعلومات فإن أكثر من جهة عربية ودولية حذّرت المسؤولين اللبنانيين منذ مُـدّة طويلة سبقت الأزمة الراهنة من الوصول إلى ما وصلنا إليه، مع التشديد على انه لا يُمكن وقف النزف الحاصل بالاقتصاد ومالية الدولة الا من خلال خطة شاملة متكاملة تبدأ باستقلالية القضاء ووقف الهدر ومحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، مشددة على ان ألف وياء النزف هذا هو قطاع الكهرباء الذي يأكل خزينة الدولة ويحمل الباس أعباء بلغت حوالى 45 مليار دولار من أصل الدين الذي تراكم على لبنان منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
وفي هذا السياق، فإن مصادر متابعة رأت ان السبب الرئيسي في بلوغ الأزمة المالية هذا الحد هو الاشتباكات السياسية التي كانت تحصل وتفرمل انطلاق أي عملية إصلاحية، وقد شهدنا في محطات كثيرة التدخلات السياسية التي كانت تقف بالمرصاد لأية محاولة إصلاحية حيث كانت تتداخل المصالح السياسية مع المحسوبيات وتمنع القضاء من القيام بأية إجراءات من شأنها الحد من الهدر وسد مكامن الخلل والفساد، وهذه الأمور ساهمت إلى حدّ كبير في اندلاع هذه الأزمة، وان الاستقرار السياسي في البلد يساهم إلى حدّ كبير في الاستقرار النقدي والاقتصادي، حيث وكما هو معلوم فإن التوتر السياسي يُشكّل «نقزة» قوية لأي رجل أعمال يريد ان يستثمر في لبنان ويحمله على سحب أمواله إلى الخارج.