سقط اللبنانيون في الكورونا بلا كمّمات بعدما غرقوا في الكوارث النقديّة والماليّة والإقتصادية الشديدة التعقيد، ولمعت نجوم الشاشات بالخبراء الذين طوشوا الدنيا ولم يكن اللبنانيون يسمعون بمعظمهم. بانوا لاهوتاً جديداً ظهر ليخلّصهم من الإنهيارات، إذ لهم وحدهم لغتهم وشرعة الحقائق، عبر تحليلاتهم وقراءاتهم المتناقضة والمعقّدة بمحيط هائج من إستبدادية الأرقام والنسب. بالمقابل، تراجع السياسيون نحو أقفاص الإتّهام فالنائب والوزير والحزبي القديم والمدّعي الجديد يخاف لو ظهر بين الناس في مقهى أو مطعم أو فندق لأنّ "الثوّار" يداهمونه، بسرعة البرق، ويتشتمونه ويطردونه ويعتدون عليه. إنّه زمن الثورة والتظاهرات والمتغيرات وليفهم العالم.
إلتصق زمن الناس بالشاشات إذ برز بعض "نجومها" المكتنزون بلحم السياسيين والنهّابين والمصرفيين، وكأنّهم قادة ما سمّي مبالغةً ب"الثورة" مع أنّ خمسة شهداء سقطوا حتى الآن ومئات الجرحى البالغي الخطورة لدى تصادم قوى الأمن مع المتظاهرين. هناك 450 فصيل "ثوري" في الساحات وفي إنتباهات الناس، يرفضون أن يتجرّأ أحد أو مجموعة من الأشخاص أن يمتطي "ثوراتهم" بصيغة الجمع. بقيت القيادة مبهمة وبعيدة حتّى الآن وستبقى حتّى التعرية وإستدراد المنهوب، ما أدخل الجميع في تقاذف الإتّهامات والتلفيقات التي فاقمت الضياع العام إلى حدود القول بالمؤآمرات والأصابع الخارجية وبما عزّز التحليلات والأفكار المشوّشة المدفوعة عدّاً ونقداً، وكأنّ لبنان المرذول ساقط في جزيرة منعزلة عن
الدنيا. إستفقنا من ضياعنا لنقع في أفخاخ المؤسّسات الدولية وأمامنا جميعاً سؤآل وحيد:
هناك إستحقاقات داهمة بمليارين ومئتي مليون دولاراً وجيوب الخزينة والمصارف منهوبة وشبه فارغة. إذن؟ ماذا نفعل؟ نسدّد لنحافظ على صورتنا البهيّة أو لا نسدّد فنفقد ثقة العالم بنا؟
من يملك الإجابة واللبنانيون الحزبيون يتجمّعون مجدّداً أمام حظائر 8 و14 آذار بينما الصوت المتنامي الصارخ يقول بال"الثورة" في وجه كل الطواقم السياسية والحزبية والطائفية التي عرفها اللبنانيون منذ ال1992.
وهنا ملاحظة إعتراضيّة:
وضعت "الثورة" بين قوسين لا لعدم الإعتراف بها، بل للتنبيه لمحمول المصطلح من الأعباء الدموية والخرائب في تواريخ الدول والشعوب وقد خبرناها، ولذلك أجدني أميل إلى "الحراك" أو "الإنتفاضة" أو تسمية "العاميّة الكبرى الثانية"، وخصوصاً أنّ 100 سنة هو عمر العاميّة الأولى نستعيدها بذكر إعلان دولة لبنان الكبير 1919 الذي أعاد وطننا موحّداً بكلّ فئاته وطوائفه وتقسيماته إلى حدوده الطبيعية والتاريخية التي لطاما سلختها عنهم دولة بني عثمان بعدما فتك بهم الجوع الذي يستيقظ، للمفارقة الكريهة، في حناجر اللبنانيين ويستيقظ أو يتجدّد القفز فوق الحدود في قفز آردوغان المدان نجو البحر الأبيض المتوسط واهماً أنّ القفز في الملاعب الرياضيّة مشابه للقفز في الملاعب الدولية.
وقع اللبنانيون، إذن، في تناكفات الخبراء الماليين والإقتصاديين على إختلاف مشاربهم وقدراتهم واحترامهم، لكنهم حجبوا الرؤى إذ صادروا إمكانيّة مناقشاتهم أو تصويب آرائهم التي زادت الحياة ثقلاً وتعقيداً، وكأنّ
تلك الثقافة العلميّة التي تتطلّب التخصّص والإختصاص أوقعتهم في نشوة الإنبهار التلفزيوني من أجل المعرفة بما لم يقدهم نحو التساؤل حول أنفسهم وسلطاتهم وتجاوزاتهم وعدم رحمتهم لما يعيشه الناس. تؤدّي ظاهرة الخبراء إلى درجة "عبادة" الخبير وسماعه والتحيّز له أو رفضه من دون فهمه بالكامل. صار لبنان محكوماً بما يشابه الشريعة البيزنطية وأجناس الملائكة والخبراء يتنافسون بقوّة آرائهم وتناقضاتهم بكلّ الأمور، وكأن أحلام التغيير مقيمة في فلك منح قيادة الدولة للإختصاصيين والخبراء الذين يشغلون الزوايا والأرجاء. كان لا بدّ من توثيق أسماء معظمهم للإجابة على السؤآل:
أين يقع لبنان اليوم؟:
يقع في مداخلات وتحليلات حسن خليل، بشارة حنّا، خالد زيدان، مروان مخايل، دان قزي، ، فريدي باز، مروان بركات، جاد شعبان، شربل نحّاس، إيلي يشوعي، غسان عيّاش، رياض صوما، أمين صالح، حسن حمادة، جورج قرم، شربل قرداحي، كمال حمدان،غسان ديبة، غالب بومصلح، مايك عازار، حسن مقلّد، وائل عطالله، غسان شلوق، إبراهيم مارون، ليديا أسعد، ألبيرداغر، محمد زبيب، سامي عطالله، مفيد قطيش، ديمة كريم، أكرم حمدان، غازي وزنة، عبد الحليم فضل الله، عبير المولى، مازن سويد، مروان اسكندر، علي النمر، إيلي شويري، نسيب غبريل، سامي نادر، جاسم عجّاقة، مهى يحيى، مروان ميخائيل، جيسون توفي، زياد ناصر الدين، روي بدارو، منصور بطيش..الخ.
ويقع في زاوية الصمت المطبق للسلطات الرسميّة، ويقع عند الإعلاميات/ميون خريجو كليّة الإعلام الذين يمطرون الخبراء بالأسئلة
المتلعثمة بما يعيدني مجدّداً من التقاعد إلى الجامعة لتدريس"فنون المقابلة الصحافية"، بعدما بانت المسافات شاسعة بين الأسئلة والأجوبة.
يضيع الناس في لبنان؟
نعم. لماذا؟
أجاب إدغار موران في الصفحة 64 من كتابه Penser l’Europe بالقول أنّ الخبراء قادرون على حلّ مشكلات عرفناها في الماضي، لكنّهم يعجزون أمام مشكلة جديدة، ولأنّه في نهاية الحكم السابق للثورة الفرنسية، عجزت الجامعات ال22 من المشاركة فعليّاً أو مجاراة الحركة العلميّة التي بدأت في القرن ال 16 والتي أفضت إلى عصر الأنوار.
وبالحرف قال:"أنّ التخصّص المفرط المعمّم يؤدّي إلى الغباء الإيديولوجي المعمّم".