الصدمة الإيـجابية التـي كان ينتظرها الشعب اللبنانـي فور تشكيل الـحكومة، لـم تـحصل. والـحكومة العشريـنـيـة التـي إختار وزراؤها أهل السلطة الـحاكمة، نزعت عنها صفة الإستقلالية التـي وعد بـها رئيسها، بعدما جاهر بعض أعضائـها بانتماءاتـهم السياسية والـحزبـيـة.
قلّة من الذيـن تـمّ توزيـرهم مستقلّون حقاً، وبعضـهم ليسوا فـي الوزارات الـمناسبة، لأنّ لا إلـمام فعلياً لـهم بالـحقائب التـي إستلموها. أمّا الـخلافات التـي إشتعلت بيـن الـحلفاء - الأعداء على الـحصص والأحجام و"الثلث الـمعطّل"، وإطلاق الإتـهامات بالـجشع والطمع، كشَف ضُعف الـحكومة وعدم تـجانُسـها، ولولا تدخّل "حزب الله" لبقيت التشكيلة عالقة بيـن بعبدا وبنشعي وعيـن التينه.
صحيح أنّ تشكيل الـحكومة الـجديدة لقي إرتياحاً لدى الـمؤسّسات الدولية، إلاّ أنّ هذا الأمر لا يكفي، لأنّ هذه الـمؤسّسات تتأثّـر بـمواقف الولايات الـمتحدة والدول الأوروبية التـي تراقب سلوك الـحكومة وجدّيتـها ومدى هيمنة "حزب الله" على أعضائـها. وما الصمت العربـي والـخليجي الذي يـنـتـظر الإشارة الـخضراء من واشنطن إلاّ أكبـر دليل على حالة التـرقّب والـحذر. فالعزلة التـي وضَعتنا فيها السلطة الـحاكمة نتيجة مواقفها الـمعادية للدول العربية والـخليجية، وتـهديد رئيس كتلة "حزب الله" النيابية مـحمد رعد الأفرقاء السياسّيـيـن مـمّن هم خارج الـحكومة بقوله "شاركتـم أم لـم تشاركوا فإننا لن ندعكم وشأنكم"، سيزيد الأمور تعقيداً ويُصعِّب مهمّة حكومة "اللون الواحد".
إنّ الـتحدّي الأهمّ الذي يواجه الـحكومة الـجديدة هو تـحيـيـد نفسها عن الصراع الأميـركي-الإيرانـي، والسعودي-الإيرانـي، وإثبات صدقـيّـتـها فـي تنفيذ الإصلاحات الـمطلوبة من "ماكينـزي" و "سيدر"، كي تستعيد ثقة الشعب والـمجتمع الدولـي. فعدا عن الـمطالب الإجتماعية والـمعيشية الـمُلـحّة، وفـي مقدّمها التعليـم والطبابة وتأميـن فرص العمل، والتصدّي للوضع الـمالـي، فإنّ إجراء إنتخابات نيابـية مُبكرة وتـحصيـن إستقلالية القضاء ومـحاربة الفساد واستعادة الأموال الـمنهوبة، ستُهدئ من غضب الشارع الـمُنتفِض على "الـتـركيبة" الوزارية التـي جاءت نسخة طبق الأصل عن سابقاتـها، ولكن بوجوه جديدة، بـحيث حلّ الوكيل مكان الأصيل.
إنّ أعظم ما حقّقته الثورة أنـها ولّدت أكبـر حركة شبابية لا طائفية لـم يشهد مثلها لبنان فـي تاريـخه القديـم والـحديث، وتـمكّنت من إسقاط حكومة الرئيس سعد الـحريري، وكسرت الـمحرّمات والـحواجز الطائفية والـمذهبية والـمناطقية، وفرضت تعيـيـن ست وزيرات، ومنعت توزيـر أيّ نائب أو مرشّح للإنتخابات فـي الـحكومة الـجديدة، وأخافت أهل السلطة الفاسديـن وناهبـي الأموال العامة، ولكنها لـم تـنجح فـي فرض إيقاعها على السلطة الـحاكمة وفـي منعها من تـوزيـر أتباعها ومستشاريـها ومؤيّديـها.
يقول رئيس الـحكومة حسان دياب أنّ تشكيلته "تعبّـر عن تطلّعات الـمعتصميـن" وأنّ هدفه "إنتشال البلاد من أسوأ أزمة إقتصادية"، ولكنه يعرف جيداً أنّ طموحات الثوار تتخطّى البيانات الإنشائية والوعود البـرّاقة وشهادات الوزراء واختصاصاتـهم وسِيَـرهـم الذاتية. وتطلّعات الثوار أبعد بكثـيـر من حسابات الطاقم السياسي الفاشل والفاسد الذي أوصل البلاد إلى الفقر والإفلاس، والذي كان وراء تعيـيـنـهم. أمّا الأزمة الإقتصادية والـمالية والـمعيشية التـي ترزح تـحتها البلاد، فهي أعمق من أن يـتـخطّاها اللبنانيون بقدراتـهم الذاتية، فالإجراءات القاسية والـموجعة التـي أشار إليها رئيس الـجمهورية، والتـي قد تتـخذها الـحكومة بناءً لتوصيات "الورقة الإقتصادية" التـي صدرت عن الورشة التـي عُقدت فـي بعبدا قبل إستقالة الـحكومة السابقة، لن تعطي النتيجة الـمرجوّة، لأنّ الطبقة الوسطى التـي كانت تتـحمّل معظم الأعباء الضريـبـيـة قد إضمحلّت. فالـجائع والـموجوع يـحتاجان إلى خبـز ومسكِّنات وعِلاجات، وليس إلى أوجاع جديدة.
إنّ إستعادة الثقة بالدولة والـمصارف يـحتاج إلى مساعدات وودائع مالية فوريّة لا تقلّ عن 10 مليارات دولار، فأيـن تأتـي بـهم حكومة "اللون الواحد"، ذات التوجّه الإقليـمي الـمعروف، والتـي قال عنها مساعد وزيرة الـخارجية الأميـركية السابقة جيفري فيلتمان، أنـها "الأقرب إلى سوريا وإيران و"حزب الله" منذ حكومة عمر كرامي عام 2005" ؟ فالصمت الدولـي عقب تأليف الـحكومة أعطى إنطباعاً سيئاً، ولا يبشّر ببوادر إيـجابية لـحلّ الأزمة الإقتصادية والـمالية العميقة.
قد يكون الـحلّ باللجوء إلى صندوق النقد الدولـي، ولكن شروط الصندوق القاسية لا يستطيع أن يتـحمّلها الشعب اللبنانـي فـي ظلّ هذه الضائقة الإقتصادية الـخانقة. والثقة بالدولة ومؤسّـساتـها، التـي هي العمود الفقري لانتشال الوطن من كبوته الـمالية والإجتماعية، بدّدتـها الـمصارف وقضت عليها.
صدَق من قال : الثقة : مثل ناطحة سحاب .. بناؤها يـحتاج إلى سنوات، وهدمـها لا يـحتاج إلاّ إلى ثوانٍ .. وكمية من الديناميت.
يقول لينيـن : "الثقة لا تـحول دون الـمحاسبة". وفـي الـحقيقة، الثقة لا تُكتسَب .. الثقة تُـمنَـح !