منذ انفجار الأزمة السياسية في البلاد في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، طُرِح خيار الانتخابات النيابية المبكرة في صدارة المَطالب التي رفعها المحتجّون، باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من أيّ خريطة طريق تهدف إلى إعادة تشكيل الطبقة السياسيّة، لا يمكن لأيّ لبنان جديد يرفع الكثيرون لواءه، أن يُخلَق من دونها.
ومع أنّ بعض القوى السياسيّة "تلقّفت" هذا المَطلب، وذهبت إلى حدّ "تبنّيه" في أكثر من محطّة، إلا أنّ الوقائع السياسيّة أظهرت "تراجعاً" في التداول به، ربطاً بالمستجدّات السياسيّة، وخصوصاً الماليّة والنقديّة، التي فرضت نفسها على رأس جدول الأعمال، بعيداً عن أيّ نقاشٍ حول تداولٍ سلميّ للسلطة، لن يكون له جدوى في حال وقع الانهيار.
ولعلّ التجلّي الأبرز لذلك برز في البيان الوزاري لحكومة "مواجهة التحدّيات"، والذي خلا من أيّ إشارةٍ لانتخاباتٍ مبكرةٍ، في وقتٍ يسود الاعتقاد بأنّ مثل هذه الانتخابات سقطت بالضربة القاضية، خصوصاً أنّ "عرّابيها" أنفسهم غير متّفقين على تفاصيلها، وبالتالي فإنّها لا تعدو كونها "قنبلة دخانيّة" تُستخدَم من باب "الاستهلاك الإعلاميّ"، وربما "الشعبويّ"، بين الفينة والأخرى، لا أكثر ولا أقلّ...
المؤيّدون منقسمون...
في عزّ "انتفاضة" السابع عشر من تشرين الأول، طُرِح خيار الانتخابات المبكرة باعتبارها "ركيزة" لأيّ تغييرٍ ينشده اللبنانيون، أولاً بالنظر إلى الشبهات حول نزاهة الانتخابات الأخيرة وديمقراطيّتها، وثانياً لكون المتغيّرات التي دفعت كثيرين إلى خلع ردائهم الحزبيّ والطائفيّ، لا بدّ أن تنعكس على المسار الانتخابيّ، بما يغيّر الخارطة السياسيّة عن بكرة أبيها.
صحيحٌ أنّ الخيار وُضع ضمن "سلّةٍ متكاملةٍ" من الخطوات التي أراد المتظاهرون أن تبصر النور واحدة تلو الأخرى، بدءاً من تشكيل حكومة "تكنوقراط" مستقلّة بالكامل عن الطبقة السياسيّة، يكون من مهامها الإشراف على مثل هذه الانتخابات، إلا أنّه وجد من "يتلقّفه" ليس داخل المنظمات المدنيّة فحسب، ولكن حتى بين الأحزاب السياسيّة الممثَّلة في البرلمان.
هكذا، لم تتردّد بعض هذه القوى، ومنها "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" و"القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية" وغيرها، في إعلان جاهزيّتها الكاملة لأيّ انتخاباتٍ مبكرة ينشدها الشعب، اليوم قبل الغد، بعدما وجدت أنّها قادرة على ضرب أكثر من "عصفور" بحجر هذه الانتخابات، سواء لجهة "ملاقاة" المجتمع المدني في منتصف الطريق، بما يصوّرها مرّة أخرى في صفّه، في مواجهة صفّ السّلطة، ولكن أيضاً لاعتبارها أنّ الانتخابات إن جرت اليوم، ستُحدِث تغييراً نوعياً، خصوصاً أنّ التحالفات التي حكمت الانتخابات السابقة لم تعد سارية المفعول، ولا سيما تلك الناتجة عن "التسوية الرئاسية" بين "التيار الوطني الحر" و"تيار المستقبل".
ولكن، أبعد من الاتفاق على "مبدأ" الانتخابات المبكرة، كانت "شياطين" التفاصيل حاضرة لتفرّق "الرفاق"، وأولها ما يتعلق بقانون الانتخابات الذي يجب أن يجري الاستحقاق المنشود على أساسه، بين من اعتبر أنّ القانون الحاليّ طائفيّ، وأنّ تغييره ضروريّ وحتميّ، كما يطالب "الحزب التقدمي الاشتراكي" مثلاً، وكذلك "تيار المستقبل"، ومن رأى أنّ القانون يبقى "أفضل الممكن"، وأنّ الخوض في ورشة قانونٍ انتخابيّ جديد من شأنه الإطاحة بفكرة الانتخابات من أصلها، نظراً للتجارب السابقة التي تطلّبت سنواتٍ طويلةٍ لإنتاج قانونٍ، وفق وجهة نظر "القوات"، وحتى "الكتائب" التي تراجع حضورها النيابيّ بفعل القانون النسبيّ الأخير.
"فيتو" ضدّ الانتخابات!
عموماً، يمكن القول إنّ الانقسام حول "مبدأ" الانتخابات المبكرة، وطبيعة القانون الانتخابيّ الذي يمكن أن تجري على أساسه، لم يكن حكراً على الأحزاب السياسيّة التي تحاول "تسلّق" الحراك الشعبيّ، لتحقيق بعض المكاسب السياسيّة الآنيّة على حسابه، ولكنّه وصل إلى مجموعات الحراك نفسها، والتي انقسمت بدورها بين قائلٍ بضرورة إجراء الانتخابات بصورةٍ عاجلةٍ بمُعزَلٍ عن القانون، وقائلٍ في المقابل بضرورة إقرار قانونٍ انتخابيّ يتضمّن الإصلاحات الانتخابية الأساسيّة والمُتعارَف عليها عالمياً، وإلا فإنّ الانتخابات تصبح "لزوم ما لا يلزم"، بل قد تؤدّي إلى نتائج عكسيّة، على غرار "إطفاء" شرارة "الثورة" في مهدها، إذا ما أتت النتائج على قياس الطبقة السياسيّة، وفق القانون "المُعلَّب" أصلاً لهذا الغرض.
وفي مقابل هذا الانقسام في صفوف المعارضة، يبدو أنّ خيار السلطة "موحَّد" على رفض الانتخابات المبكرة شكلاً ومضموناً، ولو تصاعدت بعض الأصوات التي تؤكد الجاهزية لهذا الخيار، خصوصاً من جانب "التيار الوطني الحر" مثلاً، الذي يرى بعض المحسوبين عليه أنّ مثل هذه الانتخابات من شأنها أن تشكّل "الردّ الصارخ" على ما يصفونها بـ "الحملات المشبوهة" المصوّبة على "التيار" ورئيسه النائب جبران باسيل منذ انطلاقة التحرّكات الشعبيّة، ومحاولات تصويره وكأنّه بات "معزولاً"، أو أنّه فقد الحيثيّة السياسيّة والشعبيّة التي يملكها، على رغم كلّ الخطوات التي يقوم بها لإثبات العكس، من خلال بعض تحرّكات "عرض العضلات" التي يقوم بها على هامش "الحراك".
لكن، بموازاة هذه المقاربة "المحدودة" إن جاز التعبير، توحي المؤشّرات أنّ "التيار" يتوافق مع ثنائيّ "حزب الله" و"حركة أمل" على استخدام حقّ "الفيتو" في وجه خيار الانتخابات المبكرة، وهو ما تجلّى أصلاً بحذف أيّ إشارةٍ إليها في البيان الوزاريّ للحكومة الحاليّة، مع أنّ رئيسها حسّان دياب كان قد "تعهّد" بالتحضير لها بعيد تكليفه، قبل أن يتراجع بعيد تأليف حكومته، على اعتبار أنّ "الأولوية" ستكون لوضع قانونٍ انتخابيٍّ جديدٍ، وهو ما قد لا يكون مُتاحاً أو مُتوافراً قبل انتهاء ولاية المجلس النيابيّ الحاليّ.
وإذا كان الرافضون لهذه الانتخابات، وبينهم "حزب الله"، سبق أن أوضحوا وجهة نظرهم بالقول إنّ هذه الانتخابات ستكون "هدراً للوقت"، لأنّها ستعود بالوجوه نفسها، مع تغييرٍ "شكليّ"، وربما محدود، في بعض الأسماء، فإنّ أوساطهم تذهب أبعد من ذلك بالقول إنّ الظرف الحاليّ لا يعطي هذه الانتخابات "الأولويّة"، فمعالجة الوضع الاقتصاديّ الذي فرض نفسه يجب أن تطغى على كلّ ما عداها، وأنّ الذهاب إلى انتخاباتٍ جديدةٍ تنبثق عنها خريطة سياسية جديدة تتصدّى هي للأزمات الكبرى التي يواجهها اللبنانيون، ليس حلاً لأنّ الأوان عندها سيكون قد فات، باعتبار أنّ "الانهيار" بات أقرب ممّا يتصوّر الكثيرون، وأنّ مواجهته لا تتحمّل "ترف" الانتظار، وهو ما يفترض بالجميع الإقرار به.
التحدّي الأكبر!
أبعد من الحديث عن قانونٍ انتخابيّ جديدٍ وعن انتخاباتٍ مبكرة لا تبدو واقعيّة أقلّه حتى الآن، ثمّة من يرى أنّ "التحدّي الأكبر" قد يكون بعكس السائد، حول إجراء الانتخابات في موعدها أصلاً، لأنّ "رهان" البعض في الطبقة السياسية قد يكون على "تأجيل" الاستحقاق، تماماً كما حصل في السابق مراراً وتكراراً بذريعة "ظروف قاهرة" قد تكون ملائمة للتوقيت الحاليّ.
لكن، مع إدراك "الحِيَل" التي قد تلجأ إليها القوى السياسية لتمرير أجنداتها ومشاريعها، قد تكون "الأولوية" اليوم في مكانٍ آخر، بعيداً عن انتخاباتٍ قد لا تطيح بأحد، وتحديداً في "إنقاذ" البلاد من "الانهيار" الذي دخلت فيه أصلاً، في ظلّ "الإذلال" اليوميّ الذي يعانيه اللبنانيون، وسط ارتفاع معدّلات البطالة وتوازياً الهجرة ومتفرّعاتها...