بدأ يتحقَّق ما كان متوقعاً: صندوق النقد الدولي، الذي استنجد به اللبنانيون وبمشورته العاجلة، صار اليوم موضع تشكيك ومحاولات «تهشيل» من بعضهم. لماذا؟ لأنّه إمبريالي «على طاقَيْن»: بالإيديولوجيا الرأسمالية وبالخضوع لمشيئة الولايات المتحدة. إذاً، لماذا هرع لبنان ملتجِئاً إلى مشورة الصندوق، وهو يعرف جيداً مَن يكون؟ ولماذا يكون لبنان في الأساس عضواً في هذا الصندوق «الإمبريالي»؟
من زاوية فكرية، هناك تيارات واتجاهات - يسارية في الغالب- لا تحبِّذ وضع أي دولةٍ تحت وصاية صندوق النقد. وهذا أمرٌ معروف عالمياً. وحتى انتفاضة 17 تشرين الأول في لبنان تضمّ مكوِّناتٍ تتبنّى هذه النظرة.
ولذلك، حرصت الانتفاضة بشدّة على أن يتولّى لبنان بنفسه الذهاب طوعاً إلى الإصلاح وإعتماد برنامج شجاع وواضح لاسترداد الأموال المنهوبة والمهرَّبة وتطبيق قوانين المراقبة والمحاسبة وإصلاح قطاعات الدولة، بدءاً بالكهرباء والاتصالات والقطاع العام والسيطرة على المعابر والجمارك وبناء اقتصاد مُنتج.
كل ذلك، كان ممكناً البدء بتحقيقه من دون تدخُّل خارجي. وكان يكفي إعلان نيّات حقيقي وواضح من السلطة باستعداد حقيقي للإصلاح. في هذه الحال، لن يكون دور المجتمع الدولي سوى تقديم الدعم، ومن دون شروط تُذكر. فالبلدان القوية تحظى بسيادة أقوى ولا تتعرّض لضغوط ذات شأن.
وأبرز نماذج الدعم مؤتمر «سيدر» الذي خصّ لبنان بـ11 مليار دولار، كانت جاهزة وما زالت، لو سار بوصايا الإصلاح. ولكن، بُحَّ صوتُ الفرنسيين وهم يطالبون لبنان بالإستفادة من الفرصة، لكن الطاقم المعني لم يكن له جواب إلاّ المماطلة والتمييع، خوفاً من انكشاف الفساد المزمن.
وفي أي حال، ثمة مَن يسأل: إذا كانت أطراف سلطوية معيّنة حريصة على منع وقوع لبنان تحت سيطرة القوى الخارجية، فلماذا لم تكن هذه الأطراف سبّاقة إلى تأمين الحصانة للبنان لكي لا يقع ويستسلم لها، بل ماذا فعلت لنأي لبنان عن نزاعات المحاور؟ ولماذا التناقض في التعاطي مع القوى الكبرى، إذ نتحدّاها فيما نحن نهرول وراء مساعداتها؟
ويسأل الناس العاديون، المذلولون بالفقر والجوع والمرض، والذين يتفرَّج عليهم أهل السلطة فيما هم «يُقرصِنون» في مليارات الدولارات ذهاباً وإياباً بين لبنان والخارج، وفي المضاربات والصفقات والعقود والتلزيمات المشبوهة:
تُرى، صندوق النقد، أداة «الرأسمالية» و«الإمبريالية العالمية»، سيظلم الفقراء أكثر ممّا تظلمهم اليوم هذه القوى التي حوّلت البلد غابةً سائبة ونهبته وأوصلت الناس إلى الكارثة؟
وهذه الطبقة، هل أبقت للفقراء شيئاً يُخشى أن يأخذه منهم الصندوق؟ وفي عبارة أخرى: هل هناك أسوأ من السيئ الذي وصل إليه البلد، لكي يخشاه الفقراء في لبنان؟
استتباعاً: لو كانت هناك لدى القوى النافذة صدقية في الحرص على البلد وموارده وفقرائه، لماذا تعاطت مع الانتفاضة بأساليب التنفيس والاستيعاب والقمع، منذ 4 أشهر، من دون أن تُظهِر أي استعداد للتغيير؟ وأي خطوة اتخذتها للكشف عن الأموال المنهوبة أو الأموال المهرَّبة أو أي باب للهدر والفساد في أي مرفق عام؟
لذلك، كان متوقعاً أن يواجه وفد الصندوق الزائر مأزق الغموض اللبناني. ففي الواقع، أركان الطبقة السياسية «زاحوا» عن الواجهة، ووضعوا محلَّهم وكلاء لهم في الحكومة، وتركوهم يتخبطون في «إدارة التفليسة». وقد كلَّفوهم أن يحاولوا الإنقاذ مع الصندوق، ولكن… حذارِ أن يقدّموا أي تنازل إصلاحي!
وعلى رغم أنّ مصادر السراي تنفي أن يكون وفد الصندوق قد فوجئ بطبيعة الأجوبة اللبنانية على أسئلته، فإنّ استغراب الخبراء يبدو طبيعياً، لأنّ المسؤولين اللبنانيين يتعاطون بتناقض مع الصندوق: يريدون المال في أسرع وقت للصعود من الهوَّة، لكنهم يحاذرون الاعتراف بالمعلومات والأرقام والسجلّات.
ولكن، في تقدير المطلعين، من المتوقع أن تسقط قريباً محاولات القوى السياسية للتهرّب من الاستحقاق. فالحل الوحيد المتبقي يبدأ حصراً بحصول لبنان على مساعدات دولية تقدَّر بما بين 20 مليار دولار و25 ملياراً. والمدخل الطبيعي والوحيد لتقديم هذه المساعدات الهائلة هو صندوق النقد الدولي ثم البنك الدولي. وقد جاء تهاوي تصنيف لبنان السيادي، مجدداً، قبل يومين، في لحظة مفاوضات الصندوق مع الحكومة اللبنانية، ليجعل الاستعانة به أمراً حيوياً، بحيث يتمّ الانتقال من المساعدة التقنية إلى المساعدة المالية.
ولكن، المهم أن يتاح للصندوق أن يشتغل. ففي الواقع، وعلى ما يُقال بالعامية: «إنهم لا يُصلِحون ولا يَصطلِحون ولا يزيحون من درب الإصلاح». والأنكى أنّ هناك الرافضين للصندوق سرّاً إضافة إلى الرافضين علناً...
البعض يعبّر عن الخوف من الصندوق، لأنّه أداة نفوذ للولايات المتحدة. لكن غالبية القوى السياسية التقليدية تتهرّب من الصندوق لمجرد أنّها مرعوبة من عواقب الانكشاف والمحاسبة. وهذا يعني أنّ هناك «باطنية» لبنانية في التعاطي مع الصندوق. فإذا استمرت عند تطبيق أي خطة يرعاها الصندوق، ستؤدي إلى نسفها.
عندذاك، سيكون لبنان قد وضع «رأسه برأس» المجتمع الدولي. والمخادعة اللبنانية «البلدية» تكون قد خرجت من القمقم. وعلى الأرجح، سيقود ذلك لبنان إلى مأزق يصعب تداركه. فهل مَن يتحمَّل المسؤولية مرَّةً واحدة، قبل وقوع الكارثة؟