في الأيام الأخيرة، عندما انحشر أركان السلطة بطروحات صندوق النقد الدولي، عاد بعضهم يفكِّر: لماذا لا نحاول كسبَ الوقت بمساعدات محدودة من فرنسا وقطر والإمارات... فنهرب من الضغط الأميركي وبرامج الصندوق التي ستقود إلى انقلابات في الواقع المالي والاقتصادي... وحتى السياسي؟
خلال الصيف الفائت، تبلَّغ لبنان مزيداً من الرسائل الأميركية القاسية. كان الطلب مجدداً: الإصلاح والابتعاد عن سياسة المحاور، تحت طائلة التعرُّض لمزيد من العقوبات وانهيار الدولة مالياً ونقدياً واقتصادياً وسياسياً.
في أيلول، وبدعمٍ من الحلفاء في تركيبة 2016، حاول الرئيس سعد الحريري تجاوز الضغوط الأميركية باللجوء إلى فرنسا أولاً، ثم الإمارات العربية المتحدة، ما دامت المملكة العربية السعودية تلتزم خياراً أقرب إلى الولايات المتحدة.
للإيضاح، في تلك الفترة كانت الأزمة المالية - النقدية - المصرفية على وشك الإنكشاف. وطبقة السياسة والمال هي نفسها كانت تعرف ذلك وتخفيه عن الناس، وقد سارعت إلى تهريب الودائع من المصارف اللبنانية، لأنّ الكارثة على وشك الوقوع ولن تستطيع مواجهتها.
كانت الإستعانة بفرنسا وبعض الخليجيين العرب محاولة للحصول على حقنةٍ جديدة مخدِّرة، تشبه الحِقَن الكثيرة في مراحل سابقة، تسمح بكسب الوقت… لعلّ أمراً يطرأ ويحلّ المشكلة. وفي صريح العبارة، هناك رهان على خرافة، أنّ استقرار لبنان حاجة دولية، وأنّ القوى الدولية لن تسمح بانهياره اقتصادياً، مهما تردّت أحواله. وهي لذلك ستمدّه بالدعم في اللحظات الحرجة.
إذاً، بقي بعض قوى السلطة يعتقد أنّ المجال مفتوح لاستمرار عملية النهب المنظّمة للدولة… حتى إشعار آخر. وفي لحظةٍ معينة، ستأتي الأموال بكثافة: أولاً من الغاز والنفط، وثانياً من دخول لبنان في التسوية الإقليمية الآتية عاجلاً أو آجلاً. فلكل شيء ثمنه.
لكن الصدمة كانت أنّ فرنسا والإمارات رفضتا تزويد لبنان «الحقنة المخدِّرة» هذه المرّة. وظهرت في وجه لبنان «جبهة» متماسكة ترفض إنقاذه إلّا بالتجاوب مع مطالب الإصلاح و»النأي بالنفس»، تقودها الولايات المتحدة، لكن فرنسا وسائر الأوروبيين والعرب انضموا إليها.
وللتأكيد، بعد انتفاضة 17 تشرين الأول، نشأت اللجنة الثلاثية، الأميركية - الفرنسية - البريطانية، على مستوى رؤساء دوائر الشرق الأوسط في وزارات الخارجية: ديفيد شينكر وكريستوف فارنو وستيفاني القاق.
في البداية، ظهرت فرنسا أكثر تساهلاً. فقد طلب لبنان دعماً مالياً، وقدّم وعداً جديداً بالإصلاح. وقد تفهَّمته فرنسا، كما فعلت دائماً. لكن الولايات المتحدة رفضت هذا المنطق، فتولّى البريطانيون مهمّة إيجاد مخرج، لكونهم الأقرب إلى واشنطن في أوروبا.
مشكلة الحكومة اللبنانية هي أنّها عاجزة عن التزام أي من السقوف الثلاثة، لأنّ فيها الحدّ الأدنى من الإصلاح الحقيقي. لا السقف الفرنسي الأسهل، أي «سيدر»، ولا طبعاً السقف الأصعب الأميركي. لذلك، تدهور وضع لبنان دراماتيكياً إلى أن وقع في أيدي صندوق النقد الدولي، أي أيدي الأميركيين قبل سواهم. وفي الترجمة: هرب لبنان من الأميركيين طويلاً… لكنه عاد إليهم!
اليوم، تحاول حكومة الرئيس حسّان دياب، مجدداً، تجاوز الضغوط الأميركية من خلال الإستعانة بفرنسا والخليجيين العرب. طبعاً، من مصلحة الفرنسيين أن يتولّوا إخراج تسويةٍ في لبنان، يحتفظون من خلالها بأوسع مقدار من المصالح. ولطالما كانت علاقتهم بلبنان الأكثر تميُّزاً في الشرق الأوسط. وأما في الخليج فتحاول الحكومة فتح باب على قطر، بشتى السبل، ما دامت أبواب السعوديين وحلفائهم مقفلة.
ولكن، هل تنجح محاولة دياب حيث فشلت محاولة الحريري؟ وفي عبارة أخرى: هل ستخرج فرنسا عن تنسيقها مع الولايات المتحدة وتتفرّد بتقديم حقنة مخدّرة للبنان، خصوصاً بعد الكلام الذي أطلقه وزير المال برونو لومير عن ضرورة أن تفرز واشنطن بين ضرورة إنقاذ لبنان ومواجهتها مع إيران؟
وهل ستبادر قطر الى خطوة إنقاذية تجاه لبنان، وربما مثلها الإمارات، حيث السعوديون يلتزمون نهج الولايات المتحدة، علماً أنّ الرياض نفسها عبَّرت مجدداً عن حرصها على مساعدة لبنان؟
المطلعون يستبعدون أي خطوة إنقاذية نحو لبنان، سواء كانت من جانب الفرنسيين أو الخليجيين العرب، إلاّ إذا جاءت ضمن برنامج إصلاحي. فلو كانت باريس قادرة على مواجهة واشنطن في هذه المسألة لما حجبت مساعدات «سيدر» منذ 2018.
أما الخليجيون، فليس منطقياً أن يخالفوا النهج الأميركي، لأنّ مصلحتهم تكمن أساساً في إبعاد لبنان عن النفوذ الإيراني. وهم لن يتراجعوا اليوم بعدما بلغت الضغوط ذروتها وبات لبنان مؤهّلاً أكثر للنأي بنفسه.
إذاً، أي مراهنة جديدة من طاقم السلطة على التسلّل، بعيداً عن أنظار الأميركي، لتقديم دعمٍ جديد لماكينة الفساد التقليدية كي تبقى على قيد الحياة مزيداً من الوقت، ستكون عبثية. فحتى فرنسا، «أمُّنا الحنون»، لن تزعِّل «أمَّها» واشنطن. وأما «أشقاؤنا» العرب فكيف يعطفون علينا ونحن نقاتلهم في عقر دارهم، تحت راية طهران؟
وقد يكون صادماً الاستنتاج الآتي، لكنه سليم منطقياً ووطنياً:
ليس في مصلحة اللبنانيين أن يتمّ الترقيع وتجاوز الأزمة الحالية بمسكنات جديدة تخفي المرض بعض الوقت، ليعود أشدَّ عنفاً، لأنّ مافيات السياسة والطوائف ستُبقي البلد بؤرة فسادٍ وهجرةٍ وتهجير.
الترقيع أغلى ثمناً من العلاج الحقيقي. وما دام الوجع قائماً، فليكن الوجع الأخير.
الترقيع أغلى ثمناً من العلاج الحقيقي وما دام الوجع قائماً فليكن الوجع الأخير.