بات من المؤكد أن هناك اختلافاً حقيقياً في الموقف الأميركي والأوروبي من مقاربة قضايا المنطقة وعلى وجه الخصوص الملف اللبناني. ففي الوقت الذي يسعى فيه الاتحاد الأوروبي وفي مقدمته فرنسا لتقديم المساعدة للبنان، وإن كان ذلك مشروطاً بإحداث إصلاحات مطلوبة ليس أقلها محاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، وأجواء «نفضة» في إدارات الدولة منعاً من الوصول إلى حالة الانهيار، فإن الولايات المتحدة الأميركية ماضية في شد الخناق على لبنان من البوابة المالية والاقتصادية تحت عنوان فرض عقوبات على «حزب الله» للحد من تأثيره على الواقع السياسي اللبناني بحسب ما يصرّح به المسؤولون في الإدارة الأميركية، وهم يُدركون جيداً بأن العقوبات التي تفرض على أشخاص في الحزب وكيانات لبنانية يعتبرونها تدور في فلك «حزب الله»، هي تصيب لبنان برمته، مما يدل بشكل صريح وواضح على ان هذه العقوبات ذات الطابع المالي لها خلفيات مغايرة تماماً فهي ترمي إلى الحصول على مكاسب سياسية وغير سياسية من لبنان تصب أولاً وأخيراً في الصالح الإسرائيلي.
ويبدو من خلال المعطيات المتوافرة والمعلومات المستقاة من أكثر من جهة دبلوماسية، ان مروحة العقوبات الأميركية قد تتجاوز في المدى القريب دائرة «حزب الله» لتتوسع باتجاه فرض عقوبات على فئات غير مرتبطة بشكل مباشر بالحزب، إذ من غير المستبعد ان تدرج أسماء لأشخاص مسيحيين سياسيين ورجال أعمال على اللائحة السوداء ظناً من الخزانة الأميركية التي تتحرك بتوجهات مباشرة من الرئيس دونالد ترامب بأن مثل هذه العقوبات ستكون أكثر فعالية على عكس بعض العقوبات التي أظهرت بأنها لم تجدِ نفعاً.
ومن البديهي القول ان واشنطن في تعاملها بهذا السوء مع لبنان في هذه المرحلة تحت مسميات مختلفة هي تستفيد من الانقسام العامودي الموجود على الساحة السياسية اللبنانية بما يمنع على لبنان اتخاذ أي موقف موحد حيال أية عقوبات، لا بل ان هذا الانقسام يُظهر لبنان بموقع الضعيف الذي لا قدرة له على مواجهة أي قرار خارجي، حتى لو كان هذا القرار يمس سيادته واستقلاله.
من هنا، فإن الخوف مبرر من ان تتواصل عملية التضييق على لبنان الذي يُعاني في الأساس من تداعيات أزمة اقتصادية ومالية لم يألفها منذ استقلاله حتى اليوم، وهذا يستدعي من الحكومة اللبنانية الإسراع في اتخاذ إجراءات سريعة بغض النظر إن كانت هذه الإجراءات قاسية أم لا، لأن مصير البلد أصبح الآن على المحك وأولى هذه الإجراءات المطلوبة من لبنان التماهي مع المطالب الدولية التي تتقاطع مع ضرورة إحداث إصلاحات من شأنها ان تقنع المجتمع الدولي بأن الحكومة تتعاطى مع هذه الأزمة بشكل جدي وعلمي.
معادلة إصلاحات = مساعدات تفرض على الحكومة الإسراع في اتخاذ إجراءات ولو قاسية لتجنب شروط صندوق النقد الدولي
وهنا يبرز السؤال المنطقي والواقعي، ما الذي يمنع الحكومة من الولوج في عملية إصلاحية واسعة تنقذ من خلالها ما تبقى من بلد، وتعيد لبنان على خارطة الاهتمام العربي والغربي، خصوصاً وأنه بات معلوماً للقريب والبعيد ان معظم الدول غير مستعدة لتقديم يد العون للبنان ما لم يُساعد اللبنانيون أنفسهم، وهذه المساعدة تتلخص بالاقدام على خطوات حقيقية وملموسة بمحاربة الفساد ووقف الهدر، وأن الاستمرار في التلكؤ في اتخاذ هذه الخطوات سيجعل الدول التي ما زال قلبها على لبنان ان تنكفئ إلى الوراء، وساعتئذٍ لن يجد لبنان مفراً له من الذهاب باتجاه صندوق النقد الدولي المعروف بشروطه القاسية والمؤلمة حال أي دولة يريد مساعدتها والامثلة على ذلك كثيرة من البرازيل مروراً بالارجنتين وصولاً إلى مصر.
وفي هذا السياق، فإن مصادر سياسية تكشف عن تبلغ المسؤولين اللبنانيين تحذيرات دولية وخصوصاً من الجانب الأوروبي بأن استعجلوا في الإصلاحات قبل فوات الأوان، لأن المعادلة التي أصبحت واقعية وتقوم على التالي: الإصلاحات مقابل المساعدات شرط أساسي للمساعدة، وما دام لبنان لم يُقدم بعد على أية خطوات إصلاحية جوهرية فإنه سيبقى يُلاقي الأبواب الخارجية مقفلة امامه وهذا سيزيد طينة ازمته المالية بلة، وبالتأكيد لن يكون في صالح الحكومة الحالية التي اعطت لنفسها اسم حكومة المواجهة، سيما وأن كُثراً ينتظرون سقوطها لأنهم يراهنون على فشلها في معالجة الملفات الشائكة وعلى وجه الخصوص الملفات المالية والاقتصادية.
وفي تقدير هذه المصادر ان سقوط الهدنة غير المعلنة التي كانت قائمة بين رئيس الحكومة حسان دياب و«تيار المستقبل» وتحديداً الرئيس سعد الحريري من خلال التراشق الناري الذي اندلع بين الجانبين في الساعات الماضية يوحي بأننا ذاهبون إلى مرحلة سياسية «حامية الوطيس»، وهذا إن حصل سيفرمل حكماً اندفاعة الحكومة في مقاربتها للملفات المالية الموجودة بين يديها، وسيعقّد كل الأمور وبالتالي سيجعل لبنان في مدار لا يُحسد عليه من التردي والتخبط.
وإذا كانت هذه المصادر ما تزال تعوّل على التعاطي الأوروبي المرن مع لبنان على عكس التوجه الأميركي وترى فيه بارقة أمل في وضع لبنان على سكة الخروج من ازمته المالية، فإنها لا تستبعد حصول عملية إنقاذ في اللحظة الأخيرة، من دون ان تعطي أي تفسيرات عن ماهية هذه العملية أو الجهة التي يُمكن ان تقوم بها.