من المعروف انّ الهجرة تتزايد في لبنان يومًا بعد يوم، وانّ كل لبناني اليوم يطمح الى فرصة سفر لتحسين اوضاعه وبحثاً عن فرصة عمل منتجة لا يجدها في بلاده.
وصل عدد اللبنانيين الذين هاجروا البلد، ولم يعودوا إليه، بحسب الدولية للمعلومات، خلال الفترة 1992-2018، إلى 601.227 شخصاً، أي بمتوسط مقداره 22 ألفًا و207 أشخاص سنويًا، وهو رقم يكاد يكون الأعلى في كل دول العالم من حيث نسبة المهاجرين والمغتربين، مقارنة بعدد السكان الإجمالي... وخلال عام 2018 غادر أكثر من 34 ألف لبناني بلدهم ولم يعودوا إليه، وهو رقم يزيد على عام 2017 الذي هاجر فيه 18 ألف لبناني بلدهم نهائياً، و11 ألفًا غادروه عام 2016 من دون العودة إليه، ما يعني أنّ هذا النزيف البشري في ارتفاع مستمر.
المشكلة التي تواجهنا اليوم ولا يلتفت اليها المسؤولون، هي انّ قسماً كبيراً من اللبنانيين الذين هاجروا سيعودون الى بلادهم، إما بسبب انتفاء الحاجة لهم في البلدان التي هاجروا اليها، او بسبب الاوضاع الاقتصادية لبعض البلدان والسياسات التي تعتمدها في تفضيل سكان البلد في فرص العمل، او لأسباب سياسية وغيرها.
ومنالمتوقع أن يعود قسم كبير من اللبنانيين الى بلدهم الام، ولن يكون لديهم خيار الاّ العودة. وبالتالي هناك ضرورة اليوم اساسية للتنبّه الى هذا الواقع والتفكير في تأمين فرص عمل لهؤلاء كما لنحو 30 الف انسان سنوياً من متخرجي المدارس والجامعات سينضمون الى طابور طالبي فرص العمل المنتجة في لبنان، كي لا نواجه مشكلة اجتماعية حادّة على المدى الطويل.
التخطيط لمواجهة هذه المعضلة يجب ان يبدأ الآن وليس دفن الرؤوس في الرمال وإنكار المشكلة، كما حصل حين قمنا بالاستدانة ولم تكن لدينا رؤية حول طريقة سداد الديون، او إذا كنا نملك القدرة فعليًا على سدادها.
من هنا، لا يجوز ان يُطلب منا توطين احد انطلاقًا من مبدأ اقتصادي، حيث أننا في حاجة لتأمين فرص عمل منتجة للبنانيين وتوطينهم أولّا في بلدهم لبنان. ونحتاج الى خلق فرص عمل هائلة لنتمكن من الوصول الى ذلك الهدف وليس فرص عمل وهمية وغير منتجة في القطاع العام.
يجب ان نفكر في المشكلة قبل ان تقع، فحق اللبنانيين اليوم ان يملكوا الفرصة للعودة الى بلدهم بكرامة اذا تعثرت اوضاعهم في الخارج.
يبقى الاساس، أن نسارع الى خلق اقتصاد منتج يؤمّن فرص عمل حقيقية للبنانيين المقيمين ومن يود العودة من اللبنانيين الذين تركوا بلادهم مرغمين.
وزياد انتاجية الاقتصاد تتطلب تفكيرًا مغايرًا وخلق قطاعات جديدة. فلنتطلع الى سنغافورة ونرى كيف نجحت في الصعود بسرعة صاروخية الى واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم مع مساحة إجمالية صغيرة، وقوى عاملة من 3 ملايين شخص فقط. فسنغافورة قادرة على تكوين ناتج محلي إجمالي يتجاوز 300 مليار دولار سنويًا.
لقد أنشأت الحكومة السنغافورية «مجلس التنمية الاقتصادية the Economic Development Board»؛ ليتولّى هندسة جذب الاستثمارات الأجنبية، ولكن من أجل جذب المستثمرين كان على سنغافورة أن تخلق بيئة آمنة، ومنظّمة، وخالية من الفساد، وركّزت على تنمية الموارد البشرية لديها، بالإضافة إلى الاهتمام بالبنية التحتية، فأنشأت كثيراً من المدارس الفنية، ودفعت الشركات الأجنبية الى تدريب عمالها غير المهرة في مجال «تكنولوجيا المعلومات» و«البتروكيماويات» و«الإلكترونيات». أما العمال الذين لم يتمكنوا من الحصول على وظائف صناعية، فقد ألحقتهم الحكومة بقطاع الخدمات، كالسياحة والنقل. وكان لاتباع استراتيجية أن تقوم الشركات متعددة الجنسيات بتدريب وتثقيف القوى العاملة لديها، عظيم الأثر على الاقتصاد السنغافوري. ففي العام 1970 أصبحت سنغافورة تصدّر في شكل أساسي المنسوجات والملابس والإلكترونيات الأساسية. وفي العام 1990 كانت تصنّع الشرائح الإلكترونية الدقيقة، وتقدّم الخدمات «اللوجستية»، وتجري البحوث في مجال «التكنولوجيا الحيوية» و«الأدوية» و«تصميم الدوائر المتكاملة» وكذلك «هندسة الطيران». وفي العام 2001 أصبحت الشركات الأجنبية تمثل 75% من الإنتاج الصناعي و85% من الصادرات الصناعية. كما تطورت صناعة السياحة في سنغافورة من الصناعات المزدهرة أيضًا، وتجذب أكثر من 10 ملايين زائر سنويًا، (Thought co2019). وما صحّ في سنغافورة صحّ في عدد من البلدان الأخرى من دولة الامارات العربية المتحدة الى ايرلندا .
يجب ان ننتقل سريعًا الى اقتصاد منتج يخلق فرص العمل عبر التركيز على صناعات نستطيع ان ننافس بها عالميًا، وتطوير قطاع الخدمات والسياحة، والاهم تطوير قطاع التعليم وانشاء مدارس مهنية تقنية، ومدارس للرياضة والموسيقى ومسرح وفنون وانتاج افلام وخدمات لوجستية لكل المشرق call centers لتوسيع الخبرات ومنح فرص اوسع للحصول على فرصة عمل منتجة.