لماذا يستميت الرئيس التركي رجب أردوغان في حماية العصابات الإرهابية المسلحة في محافظة إدلب، ويحاول الحؤول دون هزيمتها النهائية، عبر ممارسة الضغط والتهديد والتهويل بالحرب لوقف تقدّم الجيش السوري، والعودة إلى تثبيت وقف جديد لإطلاق النار… واستئناف المفاوضات مع روسيا وإيران، والاستمرار في المناورة والمماطلة في تنفيذ اتفاق سوتشي؟
هذا السؤال الذي يطرحه المراقبون على ضوء تكرار أردوغان تهديداته وتذكيره مجدّداً بمهلة نهاية شباط لانسحاب الجيش السوري من منطقة خفض التصعيد، التي حدّدت في اتفاق سوتشي، وإلاّ فإنّ تركيا ستجبره على ذلك.. ترافق ذلك مع هجوم كبير وواسع، بدعم من جيش الاحتلال التركي، شنه عتاة الإرهابيين من الجيش التركستاني وأجناد القوقاز، يتقدّمهم الانغماسيين والمصفحات المفخخة، على مدينة سراقب الإستراتيجية..
يبدو من الواضح أنّ أردوغان يستهدف، يائساً، محاولة تحقيق عدة أهداف دفعة واحدة:
الهدف الأول، إرباك هجوم الجيش السوري وتقدّمه الكبير، لا سيما بعد استعادة سيطرته على جبل الزاوية الاستراتيجي وكامل الريف الجنوبي لإدلب وخصوصاً بلدتي كفرنبل وكفرعويد المعروفتين بأنهما حصن الإرهابيين من جماعة الإخوان المسلمين.. مما أتاح للجيش السوري الإشراف على سهل الغاب والحدود مع تركيا…
الهدف الثاني، قلب المعادلة في الميدان، عبر محاولة السيطرة على سراقب والعودة إلى قطع طريق حلب، حماة، دمشق، ومنع الجيش السوري من استكمال تحرير طريق حلب، اللاذقية، وبالتالي منعه من بلوغ هدفه الأساسي من العملية العسكرية وهي تحرير كامل منطقة خفض التصعيد وفتح أوتوستراد حلب، حماة، دمشق، وحلب، اللاذقية… وبالتالي إنهاء وجود الإرهابيين في هذه المنطقة التي تضمّ أيضا مدينتي أريحا وجسر الشغور اللتين تشكلان هدف الجيش السوري، بعد محاصرتهما من كلّ الاتجاهات، ما يجعل أردوغان أمام واقع ميداني جديد لا يُمكّنهُ من الاستمرار في رهاناته على ابتزاز الدولة السورية وحلفائها لتحقيق مكاسب سياسية على حساب سيادة واستقلال سورية..
الهدف الثالث، محاولة تحسين موقفه التفاوضي مع روسيا، التي أظهرت موقفاً حازماً وصلباً في دعم الجيش السوري لمواصلة عمليته العسكرية، وعدم استجابة الرئيس فلاديمير بوتين لطلبات أردوغان، الذي خرق اتفاق سوتشي، ورفض تنفيذه، فيما تجاوزه الواقع الجديد الناتج عن العملية العسكرية للجيش السوري..
الهدف الرابع، رفع معنويات الإرهابيين التي تضعضعت على خلفية التقدّم السريع والمتواصل للجيش السوري في عمق إدلب، وبدء سيادة حالة من الإحباط واليأس في صفوف الإرهابيين، ويبحث الكثيرين منهم عن الهرب إلى تركيا.. وسط شعور لدى الإرهابيين بأنّ أردوغان عاجز عن توفير الحماية لهم..
لكن كما هو واضح، فإنّ ما حصل عشية تحرير الأحياء الشرقية من مدينة حلب، يتكرّر الآن في إدلب.. لقد استمات الإرهابيون، وبدعم تركي في هجمات متتالية لفكّ الطوق الذي فرضه الجيش السوري على الإرهابيين في الأحياء الشرقية لحلب، وكانت النتيجة فشل وهزيمة الإرهابيين واضطرار أردوغان إلى الدخول في مسار أستانة.. اليوم يحصل نفس السيناريو في إدلب، وتحديداً في مدينتي النيرب وسراقب، حيث اندفع الإرهابيون بهجمات متتالية وبدعم تركي، بالسلاح والعتاد وإسناد من المدفعية الثقيلة، والمعلومات التي تزوّدهم بها الطائرات التركية المسيرة، لكن هجماتهم مُنيت بالفشل، بعد أن تكبّدوا خسائر فادحة، حيث قتل مئات الإرهابيين الانغماسيين وغيرهم من نخبة الكوادر في الجماعات الإرهابية.. لتتحوّل هجماتهم إلى استنزاف لهم، ولتسود حالة الإحباط في صفوفهم من إمكانية تغيير الواقع الميداني ووقف تقدّم الجيش السوري.. تماماً كما حصل عندما انكسرت هجمات الإرهابيين قرب حلب حيث قتل منهم الآلاف.. وكانت النتيجة تحرير الأحياء الشرقية من المدينة.. واليوم لن تختلف النتيجة، فتحرير إدلب سيتحقق، ولن يستطيع أردوغان منع ذلك، رغم إشهاره علناً حمايته للإرهابيين والوقوف وراءهم في دعم هجماتهم.. وقد جاء قصف الطيران السوري لرتل عسكري تركي في جبل الزاوية، وقتل وجرح عشرات الجنود الأتراك، جاء ليشكل رسالة نارية قوية سورية روسية إلى أردوغان لردعه وإجباره على التوقف عن مواصلة اعتداءاته على الأرض السورية، وعن دعم الإرهابيين، وليفهم أنّ سورية وحلفاءها اتخذوا قراراً، لا رجعة فيه، للقضاء على الإرهابيين في إدلب، ووضع حدّ لخطرهم على الأمن والسلام والاستقرار في سورية.. وانّ سورية وحلفاءها لن يقبلوا العودة مجدّداً إلى مسرحيات أردوغان التي انكشفت بأنّ غايتها إنما هي دعم الإرهابيين وإدامة وجودهم في إدلب، وليس العمل على التخلص منهم..
من هنا فإنّ أردوغان يجد نفسه في مأزق كبير.. فهو لا يستطيع التورّط في حرب مباشرة مع سورية وحلفائها، روسيا وإيران، في ظلّ موازين قوى عسكرية ليست لمصلحته.. وخذلان حلف الناتو والولايات المتحدة بعدم التجاوب مع طلبه تقديم الدعم العسكري له لفرض حظر للطيران فوق إدلب، وذلك تجنّباً لمواجهة واسعة مع روسيا التي تقاتل إلى جانب الجيش السوري للقضاء على الإرهابيين، وفي ظلّ عدم وجود تأييد داخلي تركي كاف يدعم خيار الدخول في حرب، ليس لها أيّ مبرر وطني مرتبط بحماية الأمن القومي التركي من تهديد داهم، كالذي ادّعى وجوده عندما سيطرت وحدات الحماية الكردية على المناطق السورية المحاذية للحدود مع تركيا، قبل أن تعود الدولة السورية إلى الانتشار في المنطقة، وتأكيد قدرتها على فرض سلطانها على أرضها.. إزاء هذا الواقع كان يفترض بأردوغان عدم الذهاب إلى إطلاق تهديدات ومواقف غير قادر على ترجمتها.. لأنّ القراءة الواقعية المنطلقة من المعطيات المذكورة أنفا تفرض على الرئيس التركي تجنب ذلك، لأنه لا يملك، في النهاية، من خيارات سوى التراجع والتسليم بالأمر الواقع والعودة إلى طلب وساطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدخول في مفاوضات مع الحكومة السورية لإحياء اتفاقية أضنة لتكون هي مخرجه للنزول من أعلى الشجرة وتبرير انسحاب جيشه من الأراضي السورية.. ويبدو أنّ أردوغان، بعد ان أدرك أنّ حلف الناتو لن يساعده في فرض حظر جوي فوق سورية، من دون الرجوع إلى مجلس الأمن، حيث سيصطدم بفيتو روسي، عاد واتصل بالرئيس بوتين وبحثا تنفيذ الاتفاقات بشأن إدلب، كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
لكن، مع ذلك، لماذا يصعّد أردوغان من لهجته التهديدية، ويواصل دعم الإرهابيين عسكرياً..؟ ولا يقدم منذ الآن على التخلي عن مواصلة دعم الإرهابيين، ويتوقف عن انتهاك سيادة واستقلال سورية، والاعتداء على أرضها وجيشها؟
الواضح أنّ السبب إنما يعود إلى كون أردوغان ينتمي إلى حزب جماعة الإخوان المسلمين، وأن التنظيمات الإرهابية في إدلب، هو من جاء بها إلى سورية بغرض تحقيق أطماعه الاستعمارية العثمانية البائدة.. لكن بعد أن فشل في ذلك وبات أمام خيارات صعبة، لا يريد أن يظهر بأنه تخلى عن هذه التنظيمات الإرهابية، ويُتهم بأنه غدر بها، كما فعلت واشنطن مع إرهابيّيها في جنوب سورية، عشية هجوم الجيش السوري.. ولأجل القول انه قدّم ما عليه اتجاهها، من دعم عسكري بالعتاد والسلاح والقصف المدفعي، حتى اللحظة الأخيرة، وعندما تفشل هذه الجماعات الإرهابية في الصمود واستعادة زمام المبادرة ووقف تقدّم الجيش السوري، وتدنو ساعة هزيمتها النهائية.. عندها سيقول أردوغان للجماعات الإرهابية انه قام بما يستطيع، أيّ دعمها حتى النهاية، وهو غير قادر على الذهاب أبعد من ذلك، والتورّط في حرب، موازين القوى فيها ليست لمصلحته، وقد تودي بمستقبله السياسي…
في هذه اللحظة يمكن أن نرى أردوغان يتراجع ويعود إلى طلب المساعدة من روسيا للنزول من أعلى الشجرة، وإيجاد مخرج لتراجعه يحفظ له ماء الوجه…