مع اقتراب الحكومة اللبنانية من موعد اتخاذ قرارها بشأن سبل التصدّي للأزمة المالية التي دخل فيها لبنان منذ ما قبل 17 تشرين الاول 2019، يزداد الضغط من خارج الحكومة وداخلها لدفع رئيسها حسان دياب إلى تغليب خيار اللجوء إلى طلب مساعدة صندوق النقد الدولي لمعالجة الأزمة المالية والنقدية الضاغطة على الدولة والمجتمع. وفي هذا السياق نقلت جريدة «الشرق الأوسط» عن مصدر في أحزاب المعارضة اللبنانية وبعض خبرائها الاقتصاديين من رفض طلب المساعدة من صندوق النقد، لتأمين السيولة التي يحتاج إليها لبنان والتي لا تنتظر إجراء الإصلاحات التي تحتاج إلى وقت لتنفيذها… في حين انّ البلد بحاجة الآن إلى سيولة والمصارف لم يعد لديها هذه السيولة إذا فكرت الحكومة أن تلجأ إليها.. وادّعى هولاء بأنّ صندوق النقد لا يفرض شروطاً مقابل تقديم المساعدات المالية وجلّ ما يريده هو إصلاحات حكومية مقنعة له.. ترافق ذلك مع تبنّي بعض الوزراء في الحكومة خيار اللجوء إلى صندوق النقد ودفع مستحقات الدين وعدم الإقدام على خيار إعادة جدولته والتوقف عن السداد لبضع سنوات…
هذا التحرّك من قبل أحزاب السلطة السابقة من فريق 14 آذار وخبرائها، وبعض الوزراء الذين يؤيدون خيارات صندوق النقد، هدفه الأساسي:
اولاً، الاستمرار في سياسات الاستدانة التي تشكل جوهر النهج النيوليبرالي الريعي الذي تسبّب بإغراق لبنان بالدين وهمّش الإنتاج الوطني، وأشاع الفساد.. وبالتالي الحيلولة دون حصول تغيير في هذا النهج الاقتصادي والمالي الريعي الذي يؤمّن مصالح الطبقة السياسية على حساب مصالح غالبية اللبنانيين…
ثانياً، ضمان استمرار أصحاب المصارف والثروات في الحصول على أرباحهم من سندات الدين، والتهرّب من تحمّل عبء مسؤولية معالجة الأزمة.. وفي هذا السياق يقوم هذا الفريق بممارسة التهويل على الحكومة من مغبة الأخذ بموقف حزب الله الرافض خيار صندوق النقد، وأنّ الدول الغربية التي تعهّدت بتقديم القروض، أعلنت ان لا خيار للبنان إلا بصندوق النقد لتأمين سيولة سريعة..
ثالثاً، استمرار ربط لبنان بالتبعية للسياسات الغربية عبر صندوق النقد الذي يشكل أداة واشنطن والعواصم الغربية الأخرى لإخضاع الدول وربطها بمنظومة التبعية الاقتصادية والمالية واستطراداً السياسية والأمنية وغيرها من أشكال التبعية للمركز الرأسمالي الاستعماري الغربي.. الذي يستهدف من وراء ذلك تحقيق جملة من الأهداف.. أبرزها…
الهدف الأول، منع لبنان من انتهاج سياسات مستقلّة تعزّز خياره المقاوم..
الهدف الثاني، الحيلولة دون اتجاه لبنان شرقاً، لإيجاد علاجات لأزماته المالية والاقتصادية، مما يفقد العواصم الغربية قدرة التأثير على القرار اللبناني…
الهدف الثالث، الضغط على لبنان لجعله يقبل بالاقتراح الأميركي لترسيم الحدود البحرية والبرية بما يحقق أطماع كيان الاحتلال الصهيوني بالاستيلاء على جزء مهمّ من ثروات النفط والغاز المكتشفة في المياه الإقليمية اللبنانية الخالصة، لا سيما في البلوك 9 الذي تؤكد المعلومات أنه يحتوي على كميات كبيرة من هذه الثروة…
انطلاقاً من ذلك فإنّ خضوع الحكومة لمثل هذا التهويل واللجوء إلى الاستدانة من صندوق النقد يعني…
1 ـ الانزلاق الى الفخ الذي يُنصَب للبنان، لمنعه من سلوك خيارات بديلة تجعله يسير على سكة الخروج من الأزمة، بدلاً من الغرق أكثر في أزماته.. فإعادة هيكلة الدين خيار لجأت اليه الكثير من الدول التي عانت من المديونيّة، وتحميل أصحاب الثروات والمصارف عبء معالجة الأزمة أمر ضروريّ وواجب ينطلق من مبدأ التضامن المجتمعي، عدا أنّ هؤلاء حصدوا مليارات الدولارات أرباحاً من الاكتتاب بسندات الخزينة مقابل فوائد وصلت في بعض السنوات إلى ما يفوق الـ 40 في المئة.. وهي فائدة حققت لهم أرباحاً هائلة غير مشروعة، وبالتالي لن يتضرّروا إذا ما جرى حسم جزء كبير من الديون العائدة لهم ولمصرف لبنان.. وعندها لا يعود لبنان بحاجة إلى الاستدانة.. الى جانب، طبعاً، استعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج، وكذلك الأموال المنهوبة..
2 ـ منع لبنان من إحداث تغيير في سياساته الاقتصادية، بحيث يعتمد سياسات إنتاجية تمكّنه من ردم الهوة في الميزان التجاري وتنشيط الإنتاج الصناعي والزراعي والتوسّع فيه، وبالتالي تأمين فرص العمل للشباب العاطل من العمل.. وهو أمر يستدعي بالضرورة الانفتاح على سورية والتواصل مع الحكومة السورية لتأمين التسهيلات اللازمة لتصدير الإنتاج اللبناني الى الأسواق العربية لا سيما السوق العراقية الحيوية بالنسبة للإنتاج اللبناني..
3 ـ إنّ اللجوء لصندوق النقد، يجعل الحكومة تمتنع عن التفكير بخيار قبول المساعدات الصينية والروسية والإيرانية غير المشروطة لحلّ الأزمات المزمنة في قطاعات الكهرباء والنفايات والمياه والطرقات والنقل وإصلاح مصافي النفط وتطوير البنى التحتية الخدمية للبنان وخصوصاً المرافئ البحرية والجوية.. وإقامة السدود إلخ…
4 ـ وأخيراً تضييع الفرصة على لبنان للخروج من أزمته البنيوية عبر إصلاحات وطنية تردّ الاعتبار للاقتصاد الإنتاجي وتعيد إحياء موارد الدولة واستعادة ما خصخص منها لتزوّد الخزينة بالمداخيل التي تغنيها عن الاستدانة وتجنّب اللبنانيين الأزمات المستمرة والارتهان للدائنين وسياساتهم وابتزازهم..
من هنا يمكن القول إنّ المطلوب، في هذه اللحظة المفصلية من الأزمة، أن تتحرك كلّ القوى، صاحبة المصلحة بالتغيير والإصلاح الوطني الحقيقي للضغط على الحكومة لعدم اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، وبالتالي العمل لسلوك الخيارات البديلة المتاحة لإيجاد حلول للأزمات المالية والاقتصادية والخدمية…